خطواتها متهالكة متعثرة و عيناها زائغتان .. قلبها مضطرب بالمشاعر المتناقضة و إرادتها لا تطاوعها في فعل شيء لا تفعله أي أم .. الصغير يبكي بصوت خافت بينما هي تنظر له نظرات خاوية.. قالت لنفسها:- اللعنة عليك يا حميدو أنت السبب في هذا .
تذكرت حميدو الشاب الذي يشيد به جميع أهل الحي في تفانيه في العمل و كيف أعجبت به رغم صغر سنها.. تذكرته عندما طلق امرأته و أراد الزواج بأخرى فخاب مسعاه و طاشت طلقاته بعيدا عن الهدف.. عندما علمت طليقته برغبة حميدو في الزواج من ابنة خالتها قامت مشاجرة بينهما في الحي اتهمت فيها طليقته ابنة خالتها أنها خطافة رجالة و أنها نسب لا يشرف و ياليتها كانت قد ماتت قبل أن تعرفها.. كانت هي في ذلك الوقت تتزين و تجلس أمام عتبة دارها منتظرة رد فعل حميدو كلما مر عليها و هي تشيعه بنظرات الإعجاب ..
رمى أمامها ورقة بعد بعد أسبوع من التزين و الابتسام في وجهه فضتها لتجد فيها عنوانا ذهبت إليه بلهفة.. قابلته هناك و قصت عليه إعجابها به فأبدى تعجبه من أنه لم يلحظ ذلك إلا في الأسبوع الأخير.. طلبت منه أن يتزوجها فسخر منها قائلا:- لا زلت لم تبلغي الخامسة عشر.
قالت:- أنا أنثى كاملة الأنوثة
أخبرها أنه ليس على استعداد للزواج منها و هي في هذه السن ثم سألها عن رأيها في الزواج العرفي فقالت:- موافقة
قال:- سيشهد اثنان من أهل الحي على الورقة و تظل معي
وافقت بدون علم أهلها و تسللت ذات يوم إلى شقته مستسلمة لإرادة الجسد التي وضعتها في هذه المصيبة .. عندما علمت بحملهاطلبت منه الاعتراف بزواجها فقال:- لا حاجة لي
قالت بتوسل:- سيفضحني أهلي
قال:- سأقطع الورقة و ينتهي الأمر
قالت:- أهينة أنا عليك إلى هذه الدرجة
قال:- أنت من رخصت نفسك
أنشبت أظفارها في وجهه فلطمها و ركلها فعادت إلى بيتها خائبة الرجاء و اعترفت لأهلها بالمصيبة فضربها والدها و أخوها ضربا مبرحا و عنفتها أمها بشدة ثم رأوا أنه لا سبيل إلا في الاستسلام للواقع .. كانت في الشهر الرابع و لم ترد إجهاض الطفل فأنجبته بعد خمسة أشهر و أهلها في مأساة حقيقية من كلام الناس عليهم .. أشاعوا في الحي أنها تزوجت و زوجها مسافر للخليج لكن نظرات الحي لها و لصغيرها توضح أنهم يعرفون كل شيء.. اللعنة عليك و على أمك يا حميدو الكلب .. قررت أن تلقي بالطفل في مقلب القمامة بعد انتصاف الليل بقليل بدون علم أهلها و من ثم تصارحهم في الصباح بما فعلته.. نظرت للطفل نظرة الوداع الأخيرة ثم استعبرت قائلة:- وداعا
وضعته وسط أكوام القمامة و صوته الضعيف يصل مسامعها و هي تبتعد .. قالت لنفسها لابد من النتقام من حميدو فعادت للبيت و نامت وسط إخوتها في توتر و قلق.. استيقظت قبيل الساعة الثامنة و وضعت حلة على النار مليئة بالماء و انتظرتها حتى غلت ثم نقلت الماء لدلو بلاستيكي و خرجت إلى عتبة المنزل و وضعت الدلو خلف ساقيها بحيث لا يظهر للمارة..
مر بعد فترة حميدو ذاهب إلى عمله و هو يحاول ألا تلتقي عيونه بعيونها فتناولت الجردل عندما أصبح في مواجهتها و قذفت الماء على وجهه بكل قوتها فصرخ قائلا:- يا بنت ال....
تعالى صراخه ليخرج كثير من أهل الحي أولهم أهلها الذين شرعوا يضربونها في قسوة و هي تضحك في جذل غير مبالية بأي شيء بعدما حققت انتقامها
*******
سارت عربة الكارو الهوينى تحت أشعة الشمس المتوهجة التي تجعل الجو قيظا لا يطاق و عليها كان العجوز الذي يرتدي أسمالا بالية يسعل من تأثير الجوزة التي يشربها .
قال في قرف:- عنتر استيقظ
فتح الصبي عيناه في ضعف فقال والده بغلظة:- هيا سوف نبحث عن أي شيء قد يفيدنا في مقلب القمامة هذا . اعتدل الصبي في جلسته و جبينه يتصبب عرقا وقال:- حر لا يطاق
قال والده:- يالك من مرفه ماذا أفعل أنا إذا العجوز الذي يبلغ من العمر ست و ستون عاما
قال الصبي:- مقلب القمامة هذا مليء بالكلاب الضالة
قال العجوز:- سنحاول أن نجد أي شي ذا نفع
ترجلا عن العربة و أخذا يبحثان عن أي شيء ينفعهما .. مرت لحظات ثم قال الصبي:- تعال هنا
اتجه العجوز بخطوات متمهلة إلى الى حيث يشير الصبي فوجد بقعة من الدماء تحيط ببعض القمامة فقال:- ماذا هناك
قال الصبي و هو يرتجف:- ألا ترى هذا الرضيع
اقترب العجوز من القمامة ثم نظر بتمعن فألفى جثة الرضيع وقد أكل كلب ضال ذراعه حتى الكتف بينما فقدت عينا الطفل بريق الحياة .
قال العجوز بحزن:- يا لقسوة قلوب البشر
قال الصبي:- منظر مريع
قال والده:- أحضر كيسا أسودا من العربة
ذهب الصبي و عاد بالكيس فوضع العجوز جثة الرضيع فيه قائلا:- سنذهب لدفنه في المقابر المجاورة
اتجها بالعربة نحو المقابر المجاورة و العجوز يقول للصبي:- ابحث عن أي منطقة رملية
بعد فترة قال الصبي:- هنا يا حاج
اتجه العجوز بالكيس إلى تلك البقعة الرملية ثم حفرا حفرة صغيرة بأيديهما دفنا فيها الصبي و من ثم واروه التراب و هما يقرآن الفاتحة.. لمحا لحظتها امرأة غير مريحة الملامح ترتدي السواد و هي تنظر إليهما في سخرية .. قال العجوز:- ما بك يا امرأة
قالت و هي تسحب نفسا من سيجارة كانت بيسراها:- لقيط آخر لقي حتفه
قال العجوز:- لا شأن لك بنا اقترب لحظتها رجل يرتدي جلبابا رثا صرخ في المرأة قائلا:- اذهبي من هنا
ابتعدت المرأة و هي تقول:- يا لك من رجل حقير
سبها صاحب الجلباب سبابا سوقيا ثم نظر للعجوز قائلا:- ماذ تفعلان هنا أنا حارس هذه المقابر..قال العجوز:- ندفن طفلا رضيعا وجدناه ميتا
قال صاحب الجلباب:- لا حول و لا قوة إلا بالله
ثم مضى مبتعدا متحسرا على الدنيا
قال العجوز و هو يصعد على عربته مع الصبي:- لطفك و سترك يا رب
سارا بالعربة يضربان في الأرض يبتغيان من فضل الله قبل أن يخيم الظلام على قاهرة المعز و يعود هو و الصبي إلى علبة الصفيح التي يعيشان بها .
دخلا الغرفة فوجد العجوز زوجته تبكي بحرقة فقال:- ما الذي حدث
قالت و هي تلطم:- فعلها الجابري ، دخل الغرفة و أخذ كل شيء نملكه ، حاولت منعه لكنه صفعني بقسوة
قال العجوز بثورة:- يا للحقير
قالت و هي تتشنج:- قال أنك ماطلت في إعادة ماله و لم يكن أمامه حل سوى الذي فعله
قال و هو يتناول شومة بجوار الغرفة:- سنسوي الأمور كالرجال
قال الصبي:- سآتي معك يا أبي
قال:- لا أنت صغير
ثم خرج من الغرفة و اتجه لبعض العشش التي بجانبه قاصدا ابنه الأوسط .
طرق الباب الخشبي فخرج له ابنه و في وجهه آثار النوم.. قص عليه القصة فاشتاط غضبا ثم ارتدى جلبابه و خرج معه .. مرا على ابن آخر للعجوز مصطحبينه معهم إلى الغرزة حيث يجلس الجابري.. وجدوه يشرب الجوزة فاقترب منه هو و ولداه صارخا:- جابري يا عرة الرجالة سأجعل منك عبرة
ترك الجابري الجوزة و صاح بصوت هادر:- أشهدكم يا رجال على شخص اقترض مني ماله و ماطل في إعادته لستة أشهر
قال العجوز:- سوف أربيك
قال الجابري بشراسة و استئساد:- لن تستطيع فعل شيء
قام لحظتها ثلاث رجال مع الجابري و أخرجوا من جلابيبهم سيوفا قصيرةو رواد الغرزة ينظرون بخوف.
قال العجوز:- طوال أربعين عاما عشتها معك و أنت كتلة من القذارة لقد طفح الكيل
اشتبك الرهط مع بعضهم و رواد الغرزة يبتعدون بخوف بينما تنطلق الصرخات و تتناثر الدماء و ترتجف القلوب..
سقط رجل ...
ثم سقط آخر ...
ثم أخذ بعض رواد الغرزة يحاولون فض المعركة آخذين في الاعتبار ألا تطالهم الأسلحة
NMF