بارك الله فيك يا ولدي
عرفت أن الحياة لا تسير على وتيرة واحدة و أن الأحياء لا مناص لهم من المعاناة في هذه الدنيا الفانية .. منذ أن تزوجت صدقي و هما يعيشان في جو موحش نتيجة للظروف المادية القاسية المحيطة بهما.. الفضاء السرمدي يوحي بأيام قادمة أشد حزنا و هما .. كبر الأطفال و ازدادت الأعباء و أصبحت التضحية لا مفر منها.. قليل من الزاد يكفي من أجل أن يشتد عود الأطفال .. السهر حتى أوقات متأخرة بجانب المريض منهم ، لا مانع أيضا من تحمل مزاجه السيء عند عودته من العمل ليطيح بجميع من في المنزل سبا و ركلا .. أخبرته مرات عديدة أن مشاكل العمل لا علاقة بها بالمنزل فكانت ردوده عليها دائما متشابهة.. قسوة و شتيمة و قلة أدب و كأنه تربى في حظيرة بهائم.. كانت تعلم أنها مضطرة للتحمل من أجل الأطفال و أن السنوات الستة عشرة التي عاشتها معه أضفت على شخصيتها الكثير من الجلد و الصبر.. سمعت مرات عديدة في المسجد عن جزاءطاعة الزوج و عن النعيم الأبدي الذي أعده الله للصابرين .. الابن الأكبر في الدبلوم ازدادت مصاريفه بشكل عجيب نتيجة لخروجه مع أصدقائه و شرائه الملابس التي تعطيه -على حسب زعمه – مظهرا اجتماعيا يختلف عن ظروف حياته الحقيقية .. الاثنان الآخرن في الابتدائية و عند عودتهما إلى الشقة يجعلانها جحيما متأججا .. لطالما تعاركا مع بعضهما و بذلت هي الغالي والنفيس من أجل إرضاء الطرفين .. كانا كثيرا ما يحطمان أشياء في الشقة و هي بدورها كانت تخفي الأمر عن والدهما الذي لم يكن يركز عند عودته أكثر من الأكل و النوم .. ذات يوم حصل ما لم يكن في الحسبان .. تعارك زوجها مع المهندس الذي يرأسه في العمل فقام الأخير بتوقيع عقوبة عليه تتمثل في خصم ثلاثة أيام من راتبه فما كان من زوجها—و نتيجة لعصبيته الشديدة – إلا أن سب المهندس فرد عليه المهندس سبابه فالتحما في شجار بالأيدي كان نتاجه أن حولا إلى إدارة الشئون القانونية التي قضت بفصل زوجها عن العمل و تقديم إنذار للمهندس و عاد زوجها—الذي كان يعمل حدادا في المصنع – إلى المنزل ثائرا و قذف في وجهها الطعام ثم خرج إلى القهوة الملاصقة للمنزل ليدخن الشيشة بإفراط .. علمت لحظتها أن أوقاتا من الغم و الهم قادمة لا محالة .. حاول زوجها البحث عن عمل في شركات أخرى ففشل رغم خبرته في الحدادة .. ذهب إلى ورشة ليعمل بها فتعارك مع الأسطى الكبير و ضربه .. ساءت سمعته و اتهمه كثير ممن عملوا معه بطول لسانه و شدة غضبه و قسوة عواطفه .
قالت له محذرة :- أنت تتسبب في خراب بيتك بيدك
قال باندفاع:- ماذا أصنع إن كان لي زوجة خرقاء مثلك
قالت:- ردودك قاسية كالعادة
قال:- لما لا تعملين
قالت :- ابحث لي عن عمل
قال:- ابحثي أنت
قالت:- أنا لا أجيد أي شيء إلا الطبيخ و أنت خير من يعلم هذا حتى القراءة و الكتابة لا أعرفهما بتاتا
قال بحسرة:- ليتني ما تزوجتك
قالت:- لن تجد زوجة صابرة مثلي
قال :- بل مستسلمة ضعيفة
قالت:- أنت كالأسد في المنزل و بالخارج كالبركان الثائر مع رؤسائك ، يستدعي الأمر أن تهذب أخلاقك من أجل لقمة العيش
قال:- ولدت عصبيا متقلب المزاج
قالت:- لو علمت ذلك ما تزوجتك
قال ساخرا:- أراك تعترضين على القدر
قالت:- يا لك من إنسان مؤذ
استمرت الأيام تقسو عليها و تسربلت الحياة بالسواد و عانى زوجها أشد المعاناة في الحصول على عمل فلم يفلح فقال لزوجته :- سأغادر البيت
قالت ثائرة :- إلى أين
قال:- نفذ المال معي سأغادر الى أجل غير معلوم حتى أجد عملا و أعود
قالت:- بل تتهرب من مسئولياتك و تذهب للمكوث مع والدك
قال:- لا أذهب لوالدي كثيرا
قالت:- أنت وضيع و جبان
لطمها لطمة قاسية جرحت شفتها السفلى ثم قال و هو يغادر المنزل:- أمامك فرصة لتثبتي لنفسك أنك أم شديدة و قوية
قالـت صارخة :- و من أين ننفق
قال و صوته يبتعد:- سأغادر حتى تتحملي مسئولية ثلاثة لا أربعة
****
شح المال و ضعف جسدها و هزل و لم يعد في البيت الا أقل القليل .. استدانت من أمها نقودا فأعطتها وهي تحذرها—بأسلوب ملتو – بعدم العودة فالأم و الحق يقال تعيش في ضنك أشد من ضنك ابنتها .. حاولت الاستدانة من الجيران فقوبلت بالرفض و الصدود .. ضاقت السبل و انعدمت الحلول فلم تجد بدا من اتباع بعض الأساليب التي كان من المستحيل أن تطرأ على خاطرها .. ذهبت الى المسجد في ذل حقيقي تتلقى إحسان المحسنين .. وقفت أمام الجمعيات الخيرية لتتلقى هبة قد لا تكفي لسد رمق أولادها في يوم واحد.. بالنسبة للأولاد فقد تفهم الكبير الوضع أما الاثنين الآخرين فكانت ثورتهما طاغية خاصة عندما علما أن كميات الطعام المقدمة لهما شحت و أن مصاريف المدرسة ذهبت بلا رجعة .. كانت تمتلك نقابا في الدولاب لا ترتديه بيد أنها اضطرت لارتدائه في مهمة محددة ألا و هي البحث عن الطعام في القمامة .. كانت ترتدي النقاب قبيل الفجر بقليل و تخرج حاملة كيسا أسودا كبيرا باحثة عن أي طعام يصلح للأكل لتذهب به إلى المنزل لتنظفه و تغسله و تقدمه الى أولادها.. قمة الذل لكن مناص من الاستسلام للواقع المرير .. في ليلة غدافية الإهاب خرجت من منزلها مرتدية النقاب الأسود لتبحث عن الطعام في صندوق القمامة الكائن بمنطقة مجاورة لتفاجأ بابنها الأكبر يقترب منها هو و أحد أصدقائه .. بالطبع لم يكن يعرفها على هذه الحال و لكنه اقترب منها بابتسامة واسعة و وضع في يدها ربع جنيه ثم مضى لحال سبيله و كلامه مع صديقه يصل مسامعها .
- ليس معك مال
- ماذا أفعل قد تكون هذه المسكينة أحوج مني لهذا الربع جنيه
- عسى الله أن يبارك في صحتك
- ادعو الله أن يزيح عنا هذه الكربة
دمعت عيناها و هي تنظر إلى ابنها الذي يبتعد في حب و إعجاب قبل أن تقول بصوت حزين:- بارك الله فيك يا ولدي
NMF