الجزء الثاني :
" ولادة مها "
أخيرا خرجت دلال من عند ضيفتها و أسترقت النظر على غرفتي فوجدت النور ما زال مضيئا فأتت إلى تستطلع الأمر ..
سلمت و دخلت و علامات البشر و السرور تبدو على محياها ثم جلست بجانبي على السرير ...
بدأنا نتجاذب أطراف الحديث و كنت اسألها عن ضيفتنا ...
قالت : " و الله يا أحمد هالبنت أديم قصتها قصة عجيبة ..
يوم كنت بالقاعة رحت أغسل يدي و وقفت أطالع في المرآة ..
دخلت أديم و وقفت بجانبي و بدأت تنظر لي في المرآة ..
ابتسمت لها و كأني أعطيتها إشارة بالتقدم فقامت و احتضنتني و بدأت تبكي بكاء مرّا ..
تفاجأت من بكائها و بدأت اهدأها و اغسل وجهها بالماء إلى ان هدأت قليلا و ارتاحت بعض الشيء ..
خرجنا من المغاسل و كنت ممسكة بيدها و لم أكلمها ..
فقط كنت أنظر إليها و أتبسم و أشد على يدها ..
جلسنا على أحد الطاولات في آخر القاعة و بدأت أتحدث معها ..
بصراحة كنت خائفة من أن اسألها عن سبب بكاءها ..
لكن قلت في نفسي إذا هي فتحت الموضوع و إلا لن افتحه أنا ..
يا أحمد هذي البنت تقدر تقول أنها قدوة قريناتها بالتحضر و التمدن و حركات المراهقات ..
فأهلها ما يقولون لها ( لا ) أبدا ..
و المال مغدق عليها ليل نهار ..
و مفتوح لها المجال على كيفها " ...
قاطعتها و قلت : " إيه أنا مستغرب كيف ناس يخلون بنتهم تنام في غير بيتها ..
ما اتوقع ان فيه رب أسرة او أم تسمح أن البنت تنام في غير بيت أهلها ..
و غير كذا العباءة!! " ...
أكملت دلال حديثها و قالت : " اصبر تاجيك القصة كاملة ..
أقولك مفتوح لها المجال على كيفها .. المهم البنت يوم جلسنا على الطاولة قالت لي :
" اني زهقت من نفسي و أحس بضيق و أنا ودي أتوب ودي أصير مثلك ..
ودي أكون سعيدة و مرتاحة ..
ودي أحس بطعم الإيمان بقلبي .. ذبحني الفراغ " ..
و بدأت تخرج بعد ذلك كلماتها من قلبها بنبرة باكية ..
" ذبحتني همومي .. ودي أتوب و ما أقدر ..
أحاول أتوب بعدين ارجع لذنوبي .. ما قدرت أستحمل ..
أحس ان الله ما راح يتوب علي كل ما تبت رجعت ..
و الله زهقت من نفسي ..."
وانخرطت في موجة شديدة من البكاء ...
هدأتها و أتيت لها بكأس ماء بارد ثم أصررت عليها بشربه فشربت ثم توقفت عن إكمال حديثها حتى ارتاحت بعض الشيء ..
كنت أنظر إليها و أقول في نفسي الآن وقعت المسؤولية عليك يا دلال ..
البنت تمد يديها إليك و تقول أنقذيني من ظلام المعاصي و أنا أتهرب ..
لا و الله ..
سأحاسب على ذلك إن لم أساعدها ..
فما بعد أن تنطرح بين يديك و ترجوك أن تأخذها الى طريق الهداية أي عذر ...
عرضت عليها الذهاب معي إلى البيت حتى نعالج وضعها بترتيب ففرحت كثيرا ..
فذهبت و إياها إلى أمها و كنت أتوقع منها الرفض ..
فما أن عرضت عليها الأمر حتى قالت : " إذا أديم ودها بكيفها ؟ " ..
صعقت بهذه الحرية المفتوحة ..
فعلمت أن الخلل ليس بالفتاة بل ببيئتها و بيتها المتفلت ...."
قامت دلال بعد أن اعتذرت مني بالمبيت مع ضيفتها أديم هذه الليلة و أنا ما زلت أسبح في بحر أفكاري ..
و قبل أن تهم بالخروج التفت علي و قالت : " احمد وين قلمك ؟؟ " ..
ضحكت لأنها لم تنسى موضوع القلم و أخبرتها بقصتي كاملة مع معاذ ...
أومأت برأسها و هي تبتسم و كأنها تقول : " ماشي .. بس محسوبة !! " ...
ذهبت دلال إلى ضيفتها و كانتا قد اتفقتا على خطة يسيرون عليها ..
و اتفقتا على انه لابد لكل شئ من أساس ..
و لابد من إرادة قوية و عزيمة صادقة ..
و هذه الإرادة و العزيمة لابد أيضا من أن تتربى حتى تكبر و تقوى فتثبت أمام تيارات الهوى و الشهوات ..
فالذي يريد أن يخوض معركة لابد له من أن يتجهز لها بالتدريب و السلاح و العدة ..
كما أن التدريب يكون على شكل مراحل و مستويات حتى ينمو الجسم و يُبنى بناء صحيحا و قويا ..
ثم أكملوا برنامجهم ليلتهم تلك و نمت أنا وحيدا في غرفتي ...
مرت سنتان على هذه الحادثة و رزقنا الله بعدها بمولودة كالقمر أسميناها مها ..
كانت أديم من أول المهنئين لنا في المستشفى .. سبحان مغير الأحوال ..
أصبحت هذه الفتاة إحدى الداعيات إلى الله في بيتها و عائلتها و في أي مجلس تجلس فيه ..
أصبحت تبذل من الأموال لدور الخير أضعاف ما كانت تبذله في سبل الهوى ..
عندما علمت من دلال أن أهل القرآن هم أهل الله و خاصته أبت إلا أن تكون منهم ..
و عندما علمت أن خيرنا من تعلم القرآن و علمه بذلت كل ما تستطيع لتتعلم القرآن و تعلمه بمالها و نفسها ..
من رأى تلك الفتاة يرى أثر نور الإيمان في وجهها ..
قالت أديم ذات يوم لدلال بعد أن عتبت عليها خوفا عليها من الإرهاق :
" يا دلال .. كل ما بذلت للخير ..
كل ما ارتحت و حسيت بسعادة في حياتي لم أذقها من قبل ..
كل لحظة ضيعتها في معصية الله الآن أتندم عليها ..
لأني وجدت الراحة و الطمأنينة و الأنس في طاعة ربي و البذل لدينه" ...
خرجت دلال من المستشفى بعد أن أمضت فيها عشرين يوما لمرض أصابها مع ولادة مها و بدأت صحتها تتحسن يوما بعد يوم و الحمد لله ...
كانت مها ريحانة قلبي و نبض فؤادي ..
يبتهج البيت بصوتها و شقاوتها ..
و كانت دلال تربيها على الأدب من أشهرها الأولى فأتعجب لصنيعها ..
طفلة رضيعة فكيف تتأدب !! ..
و كانت أيضا دائما ما تقرأ القرآن و هي تحملها ..
و تعلمها كلمات القرآن قبل أن تنطق ..
حتى أني ذات يوم دخلت البيت فسمعت دلال تقرأ القران بصوت مرتفع ..
فدخلت الغرفة استطلع الأمر فوجدت دلال قد أجلست مها أمامها و كانت مها للتو قد تعلمت الجلوس و أسندتها على أحد الوسائد حتى لا تسقط على ورائها ..
ثم جلست دلال أمامها و كانت تقرأ القرآن بصوت مرتفع و كأنهما تلميذ و أستاذه في حلقة تحفيظ ..
استغربت من صنيع دلال بمها فقلت :" ما شاء الله عليكم فاتحين دار تحفيظ .." .. فقالت لي دلال و همة الأم المؤمنة تملأ عينيها : " أبغى مها تلبسنا تاج الوقار يوم القيامة بحفظها لكتاب الله" ...
فأكبرت هذه الهمة العظيمة في هذه المرأة الصالحة ..
وتذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم : " الدنيا متاع , و خير متاعها المرأة الصالحة " ...
• • •