قلت:- سأحاول إقناع زوجك سابقا
قالت:- سينهرك و يطردك
قلت:- لا ضير من المحاولة
قالت:- ساعدني بكل طاقتك
قلت:- أعدك أن تري ابنتك
غادرت الشقة آخذا منها عنوان طليقها و ذهبت إلى مدينة نصر أسأل عنه فعلمت أنه في سفر و سيعود بعد يومين .. ذهبت بعد يومين إلى عثمان طليقها و طرقت الباب.. فتحت لي الباب طفلة صغيرة تبلغ من العمر عشرة أعوام قدرت أنها منة فقد كانت تشبه أمها في كل شيء باستثناء وجهها الأبيض و شعرها الأسود الفاحم
قالت الفتاة ببراءة:- ماما رجل بالخارج
وجدت امرأة تقترب من الباب قائلة:- أي خدمة
قلت:- أريد المقدم عثمان عبد الله
قالت:- من نقول له
قلت:- شريف عيد
دخلت لمدة دقيقة و واربت الباب قبل أن يظهر وجه قاس من خلف الباب قائلا :- من أنت
قلت بأدب:- أريد التحدث مع حضرتك ، أنا قريب لابتسام زهدي
قال:- لا حديث . و هم بإغلاق الباب فوضعت يدي على سيفه قائلا بتوسل:- أرجوك يا سيدي
نظر إلي لبرهة ثم فتح الباب قائلا بقرف:- تفضل
دخلت و جلست في الصالة الضخمة و جلست كل من منة و المرأة التي لا أعرفها .
قال :- ماهيتاب زوجتي
قلت:- تشرفنا يا سيدتي
قال:- و منة ابنتي
ثم صاح بصوت عال :- تعالي يا منار
دخلت طفلة تبلغ من العمر ست سنوات تقريبا تشبه ماهيتاب زوجته فقال:- منار ابنتي أيضا
قلت:- لن أطيل عليك يا سيدي فلي عندك رجاء بسيط
قال:- هات ما عندك
قلت:- ابتسام تريد رؤية ابنتها لمرة واحدة فقط
قال بغضب:- لا و ألف لا
قلت:- إنها متعبة و منهارة أقسم لك
قالت ماهيتاب:- عثمان أنت تضع سورا حديديا بين الطفلة و أمها ، أنا أم و أتفهم هذا جيدا
قال ثائرا في وجهها:- لا تنسي سيرتها الفاضحة
قالت:- و لو
قال:- و ثمة كلام عن قصة حب جديدة بينها و بين شاب يصغرها بعشر سنوات أو يزيد
ثم نظر لي نظرة ذات معنى مستطردا:- شاب يحب عاهرة يا له من أحمق صغير
قلت محاولا تمالك أعصابي:- مجرد دقائق فقط
قال:- لا لا
قلت:- يمكنن أن نأتي إليكم لمدة خمس دقائق فقط تسلم ابتسام على ابنتها و من ثم تغادر
قال:- هذا موضوع منته
قالت ماهيتاب:- كلامه منطقي
قال بضيق:- أتشاركينه الرأي
قالت:- إنها أم متوجعة
قال يائسا و هو يزفر:- حسنا مر علينا بعد يومين أنت و هي لتقابل منة في الشقة عندنا.
قلت بسعادة جمة:- شكرا جزيلا يا سيدي
خرجت أطير من شدة الفرح من عند عثمان طليقها لأزف لها الخبر فبدت و كأنها صغرت عشرين عاما كاملة و في اليوم الموعود ارتدت ابتسام ملابس داكنة محتشمة و ذهبت معي لزيارة ابنتها .
طرقنا الباب ففتحت لنا ماهيتاب قائلة :- تفضلا
دخلنا الشقة فوجدنا عثمان ينفث الدخان من أنفه و هو ينظر إلى ابتسام بتقزز .. لم تعره ابتسام اهتماما و دخلت الغرفة التي أشارت إليها ماهيتاب..مهما أوتيت من كلمات فلن أستطيع أن أصف السعادة التي بدت على وجه ابتسام عندما رأت ابنتها..
انتحبت ..
بكت..
عانقت الطفلة...
تشممت شعرها في لهفة ...
أمسكت وجنتيها بكلتا كفيها ثم عانقتها ثانية.. المحزن أن الطفلة كانت تتملص منها و كأنها لا تعرفها البتة .. ناولتها ابتسام باقة من الشكولاتة كانت قد أحضرتها معها قائلة :- هذا من أجلك يا حبيبتي
ثم أخذت تتحدث معها عن المدرسة و أحوال صديقاتها قبل أن نغادر محملين باللعنات السرية من عثمان طليقها .
قلت لها و نحن نسير في الشارع :- هل أنت سعيدة
قالت و عيناها تتألقان :- جدا ، أحس و كأني ولدت من جديد
ثم تأبطت ذراعي الأيمن قائلة:- لكم أحبك يا شريف
*******
مر على رؤية ابتسام لابنتها شهر و نصف قبل أن تمرض.. في البداية بدأت تسعل سعالا حادا متواصلا خمنا منه أنه مجرد برد بسيط سرعان ما يزول لكن ارتفاع درجة حرارتها أشعرنا بالقلق فذهبنا لفحصها عند الطبيب الذي طلب منا القيام بمجموعة من التحاليل قبل أن نعود إليه .. ظهرت الحقيقة و ساد الوجوم و تملك القلوب الحزن .. ابتسام حبيبة قلبي و مهجة فؤادي مصابة بالايدز .. لم أصدق في البداية لكن تدهور حالتها أصابني في مقتل .. لا أستطيع الحياة من دون ابتسام ..
هي كل شيء في حياتي..
هي الأمل الذي أتمسك بأهدابه في هذه الدنيا الملعونة ..
اللعنة على أي شيء و على كل شيء..
ما هذه الدنيا التي تتلاعب بنا ..
و ماهذا القدر الذي لايريد لنا الا البؤس و الحزن ..
قالت لي في ضعف:- لابد من عمل تحاليل لك أيضا
قلت:- لا تشغلي بالك
قالت برجاء:- ذلك مهم للغاية
من منطلق الخوف على صحتي ذهبت لعمل تحاليل و قلبي يرتجف خوفا لأفاجأ بانتقال المرض منها إلي .. الآن عرفت لماذا ضعفت صحتي في الآونة الأخيرة ..
الآن عرفت لماذا لا تكاد قدماي تحملاني ...
انتقلت ابتسام الى المستشفى للعناية بحالتها و بمصاغ جديد مسروق من أمي الحبيبة التي لا تريد أن تحصل مصيبة مروعة بيني و بين أبي ..
جالسة على سرير المستشفى قالت لي ابتسام:-قد أموت
قلت:- و قد لا تموتين
قالت:- هل تعلم ماذا أحضرت معي إلى المستشفى
قلت:- ماذا
أخرجت من تحت مخدتها صورة لي و صورة لمنة عندما كانت طفلة ثم قالت و أنا أكاد أبكي :- هذان هما أعز ما أملك في هذه الدنيا و لا أريد أن أفقدهما
ثم رفعت يديها داعية من الله أن يشفيها..
لا أعلم لماذا انهارت مناعة ابتسام على هذا النحو و لم تنهر مناعتي .. ربما مناعتي أقوى منها لكنها قد تنهار أيضا في أي وقت ..
طلبتني ابتسام ذات ليلة لأقضيها معها في المستشفى فذهبت و أنا متعب منهك .
قالت لي و أنا أدخل الغرفة:- أنا مصابة بحمى شديدة و ارتفاع في درجة الحرارة قد يقضيان علي
قلت :- لا تخافي فأنا معك
ثم أمسكت يدها في حنان جارف ..
نمت في هذه الليلة على السرير المجاور لابتسام التي كانت نائمة و هي تتألم ثم صحوت على شهقات عنيفة لها و الممرضات يدخلن الغرفة في فزع .. رأيت حبيبتي في النزع الأخيرفانتفض قلبي.. لمحت قناع الموت الكئيب يكسو ملامحها فبكيت و أنا أضرب الحائط برأسي .. رأيتهن يعدون بالسرير إلى الإنعاش فصرخت كالمجنون و أنا أعدو خلفهن و أمن المستشفى يمسك بي في قوة مانعا إياي.. تهاويت على مقعد ودفنت وجهي بين كفي و أخذت أنتحب .. خرج بعد دقائق الطبيب و نظر إلي بعينين حزينتين قائلا:- البقاء لله
كنت أتوقع هذا ..
ابتسام ماتت و تركت هذا العالم ..
ابتسام التي كانت أغلى شخص عندي تركتني حطام بشر .
ناولني الطبيب صورتين ضوئيتين قائلا:- وجدناها تحتضن هاتين الصورتين
اخذت أبكي حتى بلغت الساعة الثانية و النصف بعد منتصف الليل .. قلت لمسئول المستشفى بعد ذلك:- سأنهي جميع الإجراءات في الصباح الباكر.
ثم اتجهت للجسد المفارق للحياة و قبلتها بين عينيها قائلا:-وداعا يا أغلى من أحبه قلبي
خرجت من المستشفى أسير تحت ضوء القمر..
ماذا سأقول لأهلي عندما يعلمون إصابتي بالإيدز ..
ماذا سأفعل في هذه الحياة بعدما فقدت حبيبة قلبي..
خيل إلي أن القمر يبكي و أن شعاعه المنبعث منه عبارة عن دموع منسكبة فقلت بحزن:- هل تبكي أيها القمر.
خيل إلي أن القمر قال:- حب طال و انتهى بالفراق الموجع
خيل إلي أن النجوم بكت بدورها قائلة:- هذه هي الدنيا
NMF