هذه قصة الصحابي الجليل عامر ابن عبد الله التميمي من كتاب صور من حياة التابعين للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا
عامر بن عبد الله التميمي
نحن الآن في السنة الرابعة عشر للهجرة
وهاهم أولاء الهداة البناة من كرام الصحابة وكبار التابعين يختطون مدينة البصرة بأمر من خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
فلقد عزموا على أن يجعلوا من المدينة الجديدة معسكرا لجيوش المسلمين الغازية في بلاد فارس ...
وقاعدة للدعوة إلى الله عز وجل...
ومنارة لإعلاء كلمته في الأرض...
وها هي ذي جموع المسلمين ترحل إلى المدينة الفتية من كل مكان في جزيرة العرب:
من نجد . . . من الحجاز . . . من اليمن . . .
ليكونوا على ثغر من ثغور المسلمين.
وكان في جملة المهاجرين إليها من نجد فتى من بني تميم يدعى عامر بن عبد الله التميمي العنبري.
كان عامر بن عبد الله يومئذ فتى في بواكير الصبا :غض الإهاب ريان الشباب ،وضيء الوجه ،زكي النفس ،تقي القلب . . .
وكانت البصرة على حداثتها من أغنى بلاد المسلمين غنى وأوفرها ثروة ؛لما كان يتدفق عليها من غنائم الحرب،وينصب فيها من الذهب النضار . . .
لكن الفتى التميمي عامر بن عبد الله لم يكن له أرب في ذلك كله . . .
فلقد كان زهادا بما في أيدي الناس،راغبا بما عند الله . . . معرضا عن الدنيا وزينتها، مقبلا على الله ومرضاته...
وكان رجل البصرة ومقدمها يومئذ الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه،ونضر في الجنة وجهه.فهو والي المدينة الزاهرة ز . . .
وهو قائد جيوش المسلمين المنطلقة منها في كل اتجاه . . .
وهو إمام أهلها ومعلمهم ومرشدهم إلى الله عزوجل. . .
لزم عامر بن عبد الله أبا موسى الأشعري في سلمه وحربه.
وصحبه في حله وترحاله. . .
فأخذ عنه كتاب الله رطباً طرياًًًًًًًًًً كما نزل على فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم.
وروى عنه حديث رسول الله صحيحا موصولا بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
وتفقه على يده في دين الله عز وجل...
فلما اكتمل له ما أراد من العلم جعل حياته أقساما ثلاثة:
فشطر في حلقات الذكر يقرئ فيه الناس القرآن في مسجد البصرة...
وشطر في خلوات العبادة ينتصف فيه قائما بين يدي الله حتى تكل قدماه...
وشطر في ساحات الجهاد يسل فيه سيفه وغازيا في سبيل الله...
ولم يترك في حياته موضعا لشيء غير ذلك أبدا...حتى دعي بعابد البصرة وزاهدها...
وكان من أخبار عامر بن عبد الله ما حدث به أحد أبناء البصرة قال:
سافرت في قافلة فيها عامر بن عبد الله,فلما أقبل علينا الليل؛نزلنا بغيضة...
فجمع عامر متاعه, وربط فرسه بشجرة,وطول له زمامه,وجمع له من حشائش الأرض ما يشبعه وطرحه أمامه ثم دخل الغيضة أوغل فيها فقلت غي نفسي:
والله لأتبعنه,ولأنظرن ما يصنع في أعماق الغيضة في هذه الليلة.
فمضى حتى انتهى إلى رابية ملتفة الشجر,مستورة عن الأعين...
استقبل القبلة,وانتصب قائما يصلي...
فما رأيت أحسن من صلاته ولا أكمل ولا أخشع...
فلما صلى ما شاء الله إن يصلي,طفق يدعو الله ويناجيه فكان مما قاله:
الهي لقد خلقتني بأمرك,وأقمتني في بلايا هذه الدنيا بمشيئتك,ثم قلت لي:استمسك...
فكيف استمسك إن لم تمسكني بلطفك يا قوي يا متين؟...
الهي انك تعلم انه لو كانت في هذه الدنيا بما فيها ثم طلبت مني مرضاة لك لوهبتها لطالبها...
فهب لي نفسي يا ارحم الراحمين...
الهي إني أحببتك حبا سهل علي كل مصيبة,ورضاني بكل قضاء...
فما أبالي مع حبي لك ما أصبحت عليه,وما أمسيت فيه...
قال الرجل البصري:
ثم انه غلبني النعاس فأسلمت جفني إلى الكرى ...
ثم ما زلت أنام واستيقظ,وعامر منتصب في موقفه ماض في صلاته ومناجاته حتى تنفس الصبح.
فلما بدا له الفجر أدى المكتوب,ثم اقبل يدعو فقال:
اللهم هاقد أصبح الصبح وطفق الناس يغدون يروحون يبتغون من فضلك ...
وان لكل منهم حاجة ...
وان حاجة عامر عندك أن تغفر له...
اللهم فقضي حاجتي وحاجاتهم يا أكرم الأكرمين...
اللهم سألتك ثلاثا فأعطيتني اثنتين ومنعتني واحده ...
اللهم فأعطنيها حتى أعبدك كما أحب وأريد...
ثم نهض من مجلسه فوقع بصره علي؛فعلم بمكاني منه تلك الليلة فجزع لذلك أشد الجزع وقال لي في أسى:
أراك كنت ترقبني الليلة يا أخا البصرة؟
فقلت:نعم
فقال:
استر ما رأيت مني ستر الله عليك.
فقلت: والله لتحدثني بهذه الثلاث التي سألتها ربك أو لأخبرن الناس بما رايته منك .
فقال: ويحك لا تفعل.
فقلت: هو ما أقول لك
فلما رأى إصراري قال:
أحدثك على أن تعطيني عهد الله وميثاقه ألا تخبر بذلك أحدا...
فقلت:
لك علي عهد الله وميثاقه ألا أفشي لك سرا ما دمت حيا...
فقال:
لم يكن شيء أخوف علي في ديني من النساء,فسألت ربي أنا ينزع من قلبي حبهن ,فاستجاب لي حتى صرت ما أبالي أمرأة رأيت أم جدارا...
فقلت:
هذه واحده فما الثانية؟
فقال:الثانية أني سألت ربي ألا أخاف أحدا غيره,فاستجاب لي حتى اني والله ما أرهب شيئا في الأرض ولا في السماء سواه...
قلت:فما الثالثة؟
فقال:سألت ربي أن يذهب عني النوم حتى أعبده بالليل والنهار كما أريد فمنعني هذه الثالثة...
فلما سمعت منه ذلك قلت له:
رفقا بنفسك فإنك تقضي ليلك قائما وتقطع نهارك صائما...
وإن الجنة تدرك بأقل مما تصنع,وإن النار تتقى بأقل مما تعاني...
فقال:
إني أخشى أن أندم حيث لا ينفع الندم...
والله لأجتهدن في العبادة ما وجدت إلى الاجتهاد سبيلا...
فإن نجوت فبرحمة الله وإن دخلت النار فبتقصيري ؛
غير أن عامر بن عبد الله لم يكن راهبا من رهبان الليل فحسب؛
وإنما كان فارسا من فرسان النهار أيضا...
فما أذن مؤذن للجهاد في سبيل الله إلا كان في طليعة من يجيب نداءه.
وكان إذا نهد إلى غزوة من الغزوات مع المجاهدين,وقف يتوسم الناس ليختار رفاقه.
فإذا وقع على رفقة توافقه؛ قال لهم:
يا هؤلاء إني أريد أن أصحبكم على أن تعطوني من أنفسكم ثلاث خلال...
فيقولون: ما هن؟
فيقولن :أولاهن أن أكن لكم خادما؛فلا ينازعني احد منكم في الخدمة أبدا...
والثانية أن أكون لكم مؤذنا؛فلا ينازعني أحد منكم النداء إلى الصلاة.
والثالثة أن أنفق عليكم بقدر طاقتي...
فإن قالوا:نعم انضم إليهم...
وإذا نازعه أحد منهم شيئا من ذلك رحل عنهم إلى غيرهم.
***************
وقد كان عامر من أولئك المجاهدين الذين يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع...
فهو يغشى الوغى كما لا يغشاها احد سواه...
ولكنه يعف عند المغنم كما لا يعف عنه أحد غيره...
فهذا سعد ابن أبي وقاص ينزل بعد القادسية إلى إيوان كسرى
ويأمر عمر بن مقرن ان يجمع الغنائم ويحصيها ليرسل خمسها إلى بيت مال المسلمين
ويقسم باقيها على المجاهدين,فاجتمع بين يديه من الأموال والاعلاق والنفائس ما يفوق الوصف ويعز على الحصر...
فهنا سلال كبيرة مختمة بالرصاص مملوءة بآنية الذهب والفضة كان يأكل بها ملوك فارس...
وهناك صناديق من نفيس الخشب كدست فيها ثياب كسرى وأوشحته ودروع محلاة بالجوهر والدرر...
وهذه اسفاط مملوءة بنفائس الحلي وروائع المقتنيات...
وتلك أغماد فيها سيوف ملوك الفرس ملكا بعد ملك..
وسيوف الملوك والقواد الذين خضعوا للفرس خلال التاريخ