قال عنه أبو الفتح بن سيد الناس اليعمري الحافظ: »لم أرَ مثله فيمن رأيت، ولا حملت عن أجلّ منه فيما رأيتُ ورويتُ، وكان للعلوم جامعاً، وفي فنونها بارعاً، مقدماً في معرفة علل الحديث على أقرانه، منفرداً بهذا الفن النفيس في زمانه، بصيراً بذلك شديد النظر في تلك المسالك.. وكان حسن الاستنباط للأحكام والمعاني من السنة والكتاب، مبرزاً في العلوم النقلية والعقلية.. « طبقات الشافعية للسبكي ج6، ص2-3
مولده ومنشأه..
بينما كان العالِم الفقيه علي بن وهب المعروف بمجد الدين القشيري يأخذ طريقه لأداء فريضة الحج في يوم السبت الخامس والعشرين من شهر شعبان سنة 625 هـ على ظهر إحدى السفن وبصحبته زوجته كريمة الشيخ الزاهد الورع مفرح الدماميني أحد كبار متعبدة الصعيد في القرن السابع الهجري، وذلك عن طريق البحر الأحمر الذي كانوا يسمونه في العصر الإسلامي ببحر القلزم، وما أن قاربت السفينة ساحل الينبع حتى حمل البشير إليه نبأ أدخل السرور والبشر على قلبه، وهو أن زوجته قد وضعت غلاماً، فرفع العالِم الفقيه مجد الدين القشيري يده إلى السماء شاكراً حامداً نعمة الله عليه سبحانه وتعالى على هذه المنة العظيمة. ولما قدم مكة حمل رضيعه المبارك بين يديه وطاف به البيت وهو يدعو الله سائلاً أن يجعله عالماً، وقد استجاب الله لدعائه، ووصل الفتى بجدّه وذكائه ومثابرته في الدرس وتحصيل العلوم إلى مرتبة قاضي قضاة المسلمين في العصر المملوكي.
وقد كان يدعى محمد بن عبد الله بن وهب، إلا أن اللقب الذي غلب عليه هو ابن دقيق العيد، وهو لقب جده الأعلى الذي كان ذا صيت بعيد، ومكانة مرموقة بين أهل الصعيد، وقد لقب كذلك لأن هذا الجد كان يضع على رأسه يوم العيد طيلساناً أبيضاً شديد البياض، فشبهه العامة من أبناء الصعيد لبياضه الشديد هذا »بدقيق العيد«.
نشأ ابن دقيق العيد في مدينة قوص التي كانت تشتهر في ذلك الوقت بمدارسها العديدة ونهضتها الثقافية الواسعة، تحت رعاية والده مجد الدين القشيري الذي تخرج على يديه الآلاف من أبناء الصعيد، كما يشير إلى ذلك الأدفوي في »طالعه السعيد« في تراجم متفرقة.
وقد عاش شبابه تقياً نقياً ورعاً طاهر الظاهر والباطن، يتحرى الطهارة في كل أمر من أمور دينه ودنياه، فحفظ القرآن الكريم حفظاً تاماً، وتفقه على مذهب الإمام مالك على يد أبيه، ثم رجع وتفقه على مذهب الإمام الشافعي على يد تلميذ أبيه البهاء القفطي، كما درس النحو وعلوم اللغة على يد الشيخ محمد أبي الفضل المرسي، وشمس الدين محمود الأصفهاني، ثم ارتحل إلى القاهرة التي كانت في ذلك الوقت مركز إشعاع فكري وثقافي يفوق كل وصف، تكتظ بالعلماء والفقهاء في كل علم وفن، فانتهز ابن دقيق العيد هذه النهضة العلمية الواسعة التي شهدتها القاهرة في ذلك الوقت، والتف حول العديد من العلماء، وأخذ على أيديهم في كل علم وفن في نهم بالغ، ولازم سلطان العلماء الشيخ عز الدين بن عبد السلام حتى وفاته، وأخذ على يديه الأصول وفقه الإمام الشافعي، وسمع الحافظ عبد العظيم المنذري، وعبد الرحمن البغدادي البقال، ثم سافر بعد ذلك إلى دمشق وسمع بها من الشيخ أحمد عبد الدايم وغيره، ثم اتجه إلى الحجاز ومنه إلى الاسكندرية فحضر مجالس الشيوخ فيهما، وتفقه.. وبلغ غايته في شتى أنواع العلوم والمعرفة الإسلامية، وقد جمع بين فقهي الإمامين مالك والشافعي، ومكث بالقاهرة فترة يسيرة، اتجه على أثرها إلى مسقط رأسه قوص، حيث تقلد منصب التدريس بالمدرسة النجيبية، وهي إحدى المدارس الشهيرة في قوص، وهو لم يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره، فالتف حوله المريدون يأخذون على يديه في مختلف الفنون والمعرفة الإسلامية. وقد عرف بغزارة علمه وسعة أفقه، فذاع صيته بين الناس حتى إن والي قوص أسند إليه منصب القضاء على مذهب الإمام مالك. ثم اتجه بعد ذلك إلى القاهرة، وقام فيها بالتدريس بالمدرسة الفاضلية، والكاملية، والصالحية، والناصرية، وكان ثقة في كل ما يقول أو يشرح حتى بلغ في النفوس مكانة سامية مرموقة.
وقد وصفه كثير من المؤرخين وكتّاب التراجم والطبقات كالسبكي وابن فضل الله العمري والأدفوي وغيرهم: بأنه لم يزل حافظاً للسانه، مقبلاً على شأنه.. وقف نفسه على العلوم وقصدها، فأوقاته كلها معمورة بالدرس والمطالعة أو التحصيل والإملاء.
قال الأدفوي في طالعه السعيد: »كان له قدرة على المطالعة، رأيت خزانة المدرسة النجيبية بقوص فيها جملة كتب من جملتها عيون الأدلة لابن القمار في نحو ثلاثين مجلدة وعليها علامات له، وكذلك رأيت في المدرسة السابقية السنن الكبير للبيهقي على كل مجلدة علامة له أيضاً. ويقال إنه طالع كتب المدرسة الفاضلية بالقاهرة عن آخرها. وقد كان دأبه أن يقضي الليل في المطالعة والعبادة، فكان يطالع في الليلة الواحدة المجلد أو المجلدين، وربما تلا آية واحدة من القرآن الكريم فكرّرها حتى مطلع الفجر. استمع له بعض أصحابه ليلة وهو يقرأ فوصل إلى قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) قال: فما زال يكررها إلى طلوع الفجر. وكان يقول: ما تعلمت كلمة ولا فعلت فعلاً إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله عز وجل«.
كان مغرماً بالقراءة إلى هذا الحد، كثير النقد والتحري والتدقيق فيما يقرأ، لا يقبل الشيء من غير أن يعمل فيه فكره فيقبله أو يرفضه.
ابن دقيق العيد قاضي القضاة..
حينما توفي قاضي القضاة في مصر، وهو التقي عبد الرحمن بن بنت الأعز في ثامن عشر جمادى الأولى سنة 695 هـ، وخلا بموته هذا المنصب، وذلك في عهد السلطان منصور بن لاجين، أشار أحد المقربين إلى هذا السلطان قائلاً: »هل أدلك على محمد بن إدريس الشافعي، وسفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم؟ فعليك بابن دقيق العيد«. فكان أن تقلد ابن دقيق العيد هذا المنصب الذي ظل شاغلاً له مدة سبع سنوات، بلغت فيها شخصيته مكانة مرموقة في الديار المصرية، ويقول بعض المؤرخين: »إن ابن دقيق العيد تردد في قبوله هذا المنصب حين عرض عليه وأبدى الامتناع والرفض لولا أن تحايلوا عليه«.
وكان رحمه الله في قضائه وآرائه وفتواه مثلاً أعلى للصدق والعدالة والنزاهة، لا يخشى في الحق لومة لائم أو بطش سلطان، فما كان يراه حقاً يطمئن عليه الشرع ينفذه ولو كان في ذلك غضباً للحكام والسلاطين.
وقد ترتب على ذلك أن كثر أعداؤه وحاسدوه الذي كانوا يدسون عليه ويكيدون له، وقد أورد كثير من المؤرخين مواقف مشرفة، تشيد له بالنزاهة والأمانة في عدله بين الناس.
وقد وضع الأستاذ عبد المتعال الصعيدي ابن دقيق العيد على رأس المجددين في الإسلام في القرن السابع الهجري، فيقول: »ولابن دقيق العيد لفتة عابرة قد تدل على أنه كان فيه شيء من نزعة التشديد، وذلك أنه لما جاءت التتار إلى الشام في سنة 680هـ-1281م، ورد مرسوم السلطان إلى القاهرة بعد خروجه منها للقائهم أن يجتمع العلماء ويقرؤوا صحيح البخاري، فاجتمع العلماء وقرؤوه إلى أن بقي شيء منه، وكان هذا في يوم خميس، فأخروا ما بقي إلى أن يتموه يوم الجمعة، فلما كان يوم الجمعة رأوا ابن دقيق العيد في الجامع فقال لهم: ما فعلتم ببخاريكم؟ فقالوا: بقي ميعاد أخرناه لنختمه اليوم. فقال: انفصل الحال من أمس العصر، وبات المسلمون على كذا. فقالوا: نخبر عنك. فقال: نعم. فجاء الخبر بعد ذلك.. وكان النصر فيه للمسلمين. وقد عدّ السبكي هذا من كرامات ابن دقيق العيد«.
لكن قول ابن دقيق العيد: ماذا فعل بخاريكم.. يريد منه أن النصر قد تم بما أمر الله بإعداده من قوة ومن رباط الخيل، وليس بقراءة البخاري ونحوه، على عكس ما فهم الإمام السبكي، لأن المسلمين تركوا الاعتماد على العلوم التي تمكنهم من إعداد ما أمرهم الله به من القوة الحربية.
وقد كان رحمه الله كريماً جواداً بجانب غيرته على الحق.. لا يخشى فيه لومة لائم. توفي بالقاهرة في صبيحة يوم الجمعة لتسعة أيام بقيت من صفر 702 هـ بعد أن عمّر 77 عاماً، قضاها في خدمة الدين الإسلامي الحنيف في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. وقد دفن يوم السبت، وكان يوماً مشهوداً عزيزاً في الوجود، وقد وقف جيش مصر ينتظر الصلاة عليه.
آثاره العلمية
لقد ترك ابن دقيق العيد الكثير من المؤلفات في الحديث وعلوم الفقه، ما زالت تعتز بها المكتبة العربية حتى يومنا هذا. من هذه المؤلفات: كتاب الإلمام الجامع لأحاديث الأحكام، الإلمام في الأحكام في عشرين مجلداً، وشرح لكتاب التبريزي في الفقه، وفقه التبريزي في أصوله. كما شرح مختصر ابن الحاجب في الفقه، ووضع في علوم الحديث كتاب الاقتراح في معرفة الاصطلاح. وله تصانيف في أصول الدين. كما كان ابن دقيق العيد، بجانب امتيازه في التدريس والفقه والتأليف، خطيباً بارعاً، وله ديوان شعر ونثر لا يخرج عن طريقة أهل عصره الذين عرفوا بالسجع والمحسنات البديعة.