المنهج الانتقائي الذي تقمقموا فيه ، معتمدين على مسلمات مشوهة ، أو متأثرين بمعالم كُفريَّة (ولا حرج أبداً في ذلك القول) ، فتمردوا على الدين وثوابته ، ومن ثم يلجأون وفق هذا المنهج التشويهي ، إلى بتر الحقائق ، وتضييق المفاهيم ، وتزييف المعاني ، والقطع الجبري للصلة الفطرية بين ذواتهم المحدودة والمطلق اللامحدود ، فيحدث النكوص المزعج عن الحق وأهله .
وأنبه إلى نقطة في غاية الأهمية ، أسُدُّ بها الطريق أمام أسامة سماسم ومن سيرفعون عقيرتهم دفاعاً عنه ، أن مسلماً أياً من كان ، لا يملك أن يصدر صكاً كالذي في الكنيسة بحرمان هذا من الملكوت أو إدخال ذاك إلى الفردوس ، إنما العلمانيون الشعوبيون أنفسهم ، هم الذين يختارون مكانهم وبدقة شديدة ، عندما يصرخون في وجوهنا على صفحات صحفهم ومجلاتهم التي يرتعون فيها ـ ولا نصيب لنا فيها ولو حتى مقابل ما ندفعه من ضرائب وجبايات تجفف الدم والجيوب ـ قائلين لنا :
• هل أنتم المسلمون وحدكم ونحن الكفار ؟
• من الذي أعطاكم حق الوصاية لتكفير الناس ؟
فالحقيقة الغائبة ، أنهم هم أنفسهم الذين يحددون أماكنهم ، إنما على لسان المسلمين ، ليبرؤا أنفسهم من اتهامهم لذواتهم ، ومن كثرة ما رددوه من اتهام لأنفسهم بالكفر ، صدقوا حقاً أننا الذين وجهنا إليهم هذا الاتهام بما هم يعلمونه عن مكانتهم عند ربهم ، ولو كنا نملك القدرة على النطق به لأنه الحق ، لتلمسنا الأجر العظيم من الله بقول الصدق .
وإن سمح لي أسامة سماسم أن أحلل حالته ، وأُشَخِّص له المرض ، فأقول أن العلمانيين الشعوبيين على العموم وهو واحد منهم ، يعيشون حالة انفصام شخصية شديدة ، تسيطر على عقولهم ومعتقداتهم وسلوكهم ، فهم متمسكون بالإسلام (الدين) ، لكنهم رافضون للإسلام (الدنيا) ، يؤمنون بالكتاب ، لكنهم غير قادرين على الامتثال لأوامره ونواهيه ، فيجدون أنفسهم مندفعين نحو نفي هذه الأوامر والنواهي ، ثم ما يلبثون إلا ويضعوا على أعينهم "نظارة" الرفض الشعوبية العلمانية ، فلا يرون معنىً ولا فهماً إلا من خلالها ، ولو توقف الخلل عند هذا القدر من ظلم النفس لكان أمراً هيناً ، إنما نراهم وفي جرأة عجيبة ، يُحَرِّمون في الوقت ذاته على الناس استخدام أي "نظارة" غير نظارتهم ، حتى لا تفسد رؤاهم لمعتقدنا الذي يفضح انفصامهم .
درس في التاريخ :
فإذا ما انتقلنا إلى الجانب التاريخي ، الذي أود أن يعيه أسامة سماسم ويتعلمه جيداً ، فهو قدر عمرو بن العاص وتقواه وقيمه وسلوكياته وإرادة الله العظيمة التي استجاب لها راضياً مرضياً ، جاهداً مجاهداً حتى تم له فتح مصر فيما سمي بالفتح اليسير ، وذلك هو الذي يجهله أسامة سماسم ، أو أنه يعلمه بحسب النظارة العلمانية العوراء .
ورأفة بأسامة سماسم ، واحتراماً لمشاعره التي لا يجب أن يحترمها مسلم ـ لكنني أحترمها من باب الدعوة والنصح والإرشاد ـ فسوف ألتزم بأن تكون مصادري العلمية ، وأن يكون شيوخ هذا الدرس للتاريخ ، له ولأمثاله من العلمانيين الشعوبيين ، هم من كبار رجال الكنيسة في مصر ، إذ أحسب أنهم أحب إليه وأكثر ثقة مما لو أتيت له بشيوخ من المسلمين .
وسوف أعتمد ثلاثة مصادر([2]) فقط على سبيل الاسترشاد والاستشهاد ، يمكنه أن يرجع إليها إن شاء ، ولأزيده اطمئناناً وإثلاجاً لصدره ، فإن أصحاب هذه المصادر التاريخية ، هم أشد منه تعصباً ضد الإسلام ، وأكثر منه كرهاً للمسلمين ، وأشط منه غلواً في حقدهم على عمرو بن العاص ، وبذلك أكون قد جاملت أسامة سماسم كثيراً ، ولم أقصر في حقه على الإطلاق .
فماذا يقول هؤلاء الكنسيين عن فتح مصر وعن عمرو بن العاص ، برغم ما هم عليه من تعصب وكره وحقد وغل مقيت ؟
أجيب لأسامة سماسم ، بتلك السطور المتناثرة التي اتبعت فيها المنهج العلماني الشعوبي "الانتقائي" ، إنما هنا انتقيت ما استطعت بعد جهد جهيد ، نتفات الخير من تلال الشر المتراكمة ، أما المنهج العلماني الشعوبي فينقب عن الزَلَّة ما استطاع بعد جهد جهيد ، ليشوه بها الثوب الأبيض الناصع البياض للمسلمين عقيدة وسيرة وتاريخاً .
المصدر الأول : يقول الراهب القمص أنطونيوس الأنطوني (ص 62) : (وإن كنا نذكر مظالم العرب الفاتحين فلابد – إنصافاً للحقيقة – أن نقول أن هذه المظالم لم تكن عامة أو شاملة خاصة في الفترة الأولى للفتح العربي، فقد اكتشف البروفسور جروهمان وثيقتين برديتين يرجع تاريخهما إلى سنة 22 ﻫ - 642 صليبية ، مكتوبتين باليونانية، وملحق بهما نص آخر بالعربية :
الوثيقة الأولى: إيصال حرره على نفسه أحد أمراء الجند يدعى الأمير عبد الله بأنه استلم خمساً وستين نعجة لإطعام الجند الذين معه، وقد حررها الشماس يوحنا مسجل العقود ، في اليوم الثلاثين من شهر برمودة من السنة المذكورة أولاً ، وقد جاء بظهر الورقة ما يلي : "شهادة بتسليم النعاج للمحاربين ولغيرهم ممن قدموا البلاد وهذا خصماً عن جزية التوقيت الأول" .
أما الوثيقة الثانية: فنصها : "باسم الله ، أنا الأمير عبد الله أكتب إليكم يا أمناء تجار مدينة بسوفتس ، وأرجو أن تبيعوا إلى عمر بن أصلع ، لفرقة القوطة ، علفاً بثلاث دراهم كل واحد منها (بعرورتين) وإلى كل جندي غذاء من ثلاثة أصناف" .
ويعلق الأستاذ جروهمان على الوثيقتين بقوله : "إن هذه المعاملة إزاء شعب مغلوب ، قلما نراها من شعب منتصر" .
ثم يستطرد الراهب القمص قائلاً (ص 64) : "كان البابا بنيامين (البطريرك الـ 38) هارباً من قيرس (المقوقس) البطريرك الملكاني ، وبعد الهزيمة التي مني بها الروم ورحيل جيشهم عن مصر ، غدا القبط في مأمن من الخوف ، وبدأوا يشعرون بالحرية الدينية ، ولما علم عمرو باختفاء البابا القبطي بنيامين ، كتب كتاب أمان للبابا بنيامين يقول فيه : "الموضع الذي فيه بنيامين بطريرك النصارى القبط ، له العهد والأمان والسلامة من الله ، فليحضر آمناً مطمئناً ويدبر حال بيعته وسياسة طائفته" ، كما يقول : "أن عمرو وهو في طريق عودته بعد فتح الإسكندرية ، خرج للقائه رهبان وادي النطرون، فلما رأى "طاعتهم" سلمهم كتاب الأمان للبابا ، فلم يلبث عهد الأمان أن بلغ بنيامين ، إلا وخرج من مخبئه وعاد إلى الإسكندرية بعد أن ظل غائباً ثلاثة عشر عاماً .
ثم يستطرد الراهب أنطونيوس الأنطوني واضعاً خشبه غليظة في عين أسامة سماسم ومن على شاكلته ، وهو ينهي كلامه معترفاً أنه لولا مشيئة الله بفتح عمرو بن العاص لمصر ، لما بقي وجود للنصارى فيها منذ ذلك الزمان البعيد ، فينقل نصاً : "ولقد كان لعودة بنيامين أثر عظيم في حل عقدة مذهب القبط ، إن لم تكن عودته قد تداركت تلك الملة قبل الضياع والهلاك") أ.ﻫ.
المصدر الثاني : أما القس منسي يوحنا ، فقال كلاماً غير مسبوق في أي مصدر من المصادر الإسلامية ، نطق به القس المؤرخ وكأنما يرد به على الكاتب الجاهل الجهول أسامة سماسم ، فقال (ص 306) : "وكان جيش العرب في فاتحة هذا القرن ، حاملاً لواء الظفر في كل مكان ، وظل يخترق الهضاب والبطاح ، ويجوب الفيافي والبلاد ، حتى وصل إلى حدود مصر تحت قيادة عمرو بن العاص ، فدخل مدينة العريش وذلك سنة 639 م ، ومنها وصل إلى بلبيس وفتحها بعد قتال طال أمده نحو شهر ، ولما استولى عليها وجد بها "أرمانوسة" بنت المقوقس [على رأس جيش صليبي محارب] فلم يمسها بأذى ، ولم يتعرض لها بشرِّ ، بل أرسلها إلى أبيها في مدينة منف ، مكرمة الجانب ، معززة الخاطر ، فَعَدَّ المقوقس هذه الفعلة جميلاً ومكرمة من عمرو وحسبها حسنة له" .
ثم يستطرد القس منسي يوحنا قائلاً (ص 307) : "فجمع المقوقس رجال حكومته ، وذهب للتفاوض مع رسل من قِبَل عمرو .
فبدأ وفد الروم بالتهديد والوعيد للمسلمين ، بقتلهم وإفنائهم وأنه لا بديل أمام المسلمين غير الموت أو الرحيل ، فلما بدأ وفد المسلمين ، فلم يفعل كوفد أهل الصليب إنما طرح أمامهم ثلاثة بدائل : أولها الإسلام وثانيها الاستسلام مع دفع الجزية لقاء قيام المسلمين بتسيير أمور البلاد ، ثم كان الخيار الثالث والأخير وهو الحرب والقتال الذي طرحة جيش الصليبيين الروم المحتلين لمصر كاختيار لا بديل .