الإخوان
المسلمون .. خمسون عاما من الجهاد
جاء في مذكرات الإمام البنا
( .. وفي ذي القعدة سنة 1347ه مارس سنة 1928م فيما أذكر زارني بالمنزل , أولئك الأخوة الستة : حافظ عبد الحميد , احمد الحصري , فؤاد إبراهيم , عبد الرحمن حسب الله , إسماعيل عز , زكي المغربي , وهم من الذين تأثروا بالدروس والمحاضرات التي كنت ألقيها , وجلسوا يتحدثون إلي وفي صوتهم قوة وفي عيونهم بريق , وعلي وجوههم سنا الإيمان والعزم , قالوا : " لقد سمعنا ووعينا , وتأثرنا , ولا ندري ما الطريق العلمية إلي عزة الإسلام وخير المسلمين , ولقد سئمنا هذه الحياة : حياة الذلة والقيود , وها أنت تري العرب والمسلمين في هذا البلد لا حظ لهم من منزلة وكرامة , وأنهم لا يعدون مرتبة الإجراء التابعين لهؤلاء الأجانب . ونحن لا نملك إلا هذه الدماء تجري حارة بالعزة في عروقنا , وهذه الأرواح تسري مشرقة بإلايمان والكرامة مع أنفاسنا , وهذه الدراهم القليلة من قوت أبنائنا , ولا نستطيع أن ندرك الطريق إلي العمل كما تدرك , أو نتعرف السبيل إلي خدمة الوطن والدين والأمة كما تعرف , وكل الذي نريده الآن أن نقدم ما نملك لنبرأ من التبعة بين يدي الله , وتكون أنت المسئول بين يديه عنا وعما يجب أن نعمل , وأن جماعه تعاهد الله مخلصه علي أن تحيا لدينه , وتموت في سبيله , لا تبغي بذلك إلا وجهه , لجديرة أن تنتصر , وإن قل عددها وضعفت عددها . كان لهذا القول المخلص أثرة البالغ في نفسي , ولم أستطع أن أتنصل من حمل ما حملت , وهو ما أدعو إليه وأعمل له , وما أحاول جمع الناس عليه , فقلت لهم في تأثر عميق : " شكر الله لكم وبارك هذه النية الخالصة , ووفقنا إلي عمل صالح يرضي الله وينفع الناس , وعلينا العمل وعلي الله النجاح , فلنبايع الله علي أن نكون لدعوة الإسلام جندا ,وفيها حياة الوطن وعزة الأمة . وكانت بيعة . . وكان قسما أن نحيا إخوانا نعمل للإسلام ونجاهد في سبيله . وقال قائلهم : بم نسمي أنفسنا ! وهل نكون جمعية أو ناديا , أو طريقة أو نقابة حتى نأخذ الشكل الرسمي ! فقلت لا هذا , ولا ذاك , دعونا من الشكليات , من الرسميات , وليكن أول اجتماعنا وأساسه : الفكرة والمعنويات والعمليات . نحن أخوة في الإسلام , فنحن إذن (( الإخوان المسلمون )) .
وجاءت بغتة .. وذهبت مثلا .. وولدت أول تشكيلة للإخوان المسلمين من هؤلاء الستة , حول هذه الفكرة , علي هذه الصورة , وبهذه التسمية.) في هدوء الإسماعيلية الجميل , ومن أبنائها المباركين البررة , تكونت أول نواة لتشكيلات الإخوان المسلمين وشعبهم , وبزغ فجر دعوتهم .. وكان جهاد شاق عنيف .. وكانت مراحل وخطوات .. وكانت عقبات وتحديات , اجتازتها هذه الدعوة بفضل الله ثم بفضل قيادة هذا الإمام الجليل وجنده الأبرار , حتى صارت هذه التشكيلات . بحق. كبري الحركات الإسلامية في العصر الحديث , وأصبحت شاهدا علي حيوية الإسلام وجدارته لاستنقاذ المسلمين , وبعثهم لريادة البشرية البائسة .. إلي أن امتدت يد أثيمة إلي الإمام البنا فأردته شهيدا علي طريق الدعوة .
وجاء الهضيبي ليقود قافلة الهداية , ويعلن في ثبات وإصرار :
( إن دعوة الإخوان المسلمين لم تعد دعوة محلية في حدود وطن صغير , وإنما غدت عالمية تشمل العالم الإسلامي بأسره , وتوقظ في المسلين روح العزة والكرامة والتقوى , فهي اليوم عنوان انبعاث لا نوم بعده , وتحرر لا عبودية معه , وعلم لا جهل وراءه . ولم يعد من السهل علي أية طاغية أن يحول دون انتشار هذه الروح أو امتدادها , وما ذلك إلا لأنها تعبير صادق عن شعور عميق يملأ نفوس المسلين جميعا , ويستولي علي مشاعرهم وعقولهم , وهو أنهم لا يستطيعون اليوم نهضة بدون الإسلام , فالإسلام في حقيقته ضرورة وطنية واجتماعية وإنسانية ) . واجتاحت الخمسينات والستينات غارة تترية غشيت الأمة كلها ببلاء عظيم ترنحت تحت وطأته , فما تكاد تخرج من حفرة حتى تقع في حفرة , وما تكاد تخرج من هزيمة حتى تتردى في هزيمة أخرى .. ذلك أن فراعنة مصر وجبابرتها تسلطوا علي " الفئة المؤمنة " مصدر القوة وشريان الحياة في هذه الأمة .. تسلطوا علي هذه الفئة يمزقون جسدها بشراسة الوحوش ونهمهم , فسالت دماء , وأزهقت أرواح ونفوس طاهرة , وغيبت الكتيبة الهادية بأكملها في غيابة السجون والمعتقلات , لتلقي صنوف التنكيل والتعذيب بوسائل وأساليب لم يعرفها تاريخ البشرية . وظن هؤلاء الجبابرة , أنهم بلغوا أملهم في تصفية هذه الفئة .. ولكن : هيهات !! .. هيهات لهم , فها ملكوا غير أجساد في حدود مصر , أما الأرواح والنفوس التي انطوت علي جذوة الأيمان : ما كان لقبضتهم أن تحوزها , وأما الدعوة : فكانت : قد تخطت حدود مصر , وما كان لهم أن يبلغوا تلك الحدود .. ومضي الجبابرة , بعد أن لقوا مصارعهم , تلعنهم الأرض والسماوات .. وبقيت دعوة الله , لا نها كلمته الباقية إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها .
والآن وقد بلغت هذه الدعوة خمسين عاما من عمرها المديد , وسنحت فرصة للنشر .. فقد آن الأوان لأصحاب هذه الدعوة أن يسجلوا تجربتهم الضخمة في العمل الإسلام. - الدعوة .. أساليبها ومناهجها.. خطواتها ومراحلها ومنجزاتها – شخصية الداعي الأول .. ترجمتها , وتحليل مكوناتها الفكرية والجهادية علي ضوء ظروف البيئة والعصر – القيادات.. ترجمة لحياة وجهاد كل فردفيها.. ذلك أنه قد أتيح لهذه الدعوة من القيادات الفذة التي امتد أثرها علي الصعيدين المحلي والعالمي ما يستحق عناية الباحثين . – المحنة .. في حياة الدعوة والدعاه .. نتائجها وآثارها علي صفوف الجماعة وأساليب العمل – الجنود الظاهرين والاخفياء .. تنطوي ضلوع كل واحد منهم علي قصة , تعتبر آية من آيات هذه الدعوة وعملها في النفوس... كل ذلك وغيره يجب انجازه – قبل فوات الأوان – بمعرفة أصحاب هذه الدعوة ومن تحركوا بها .. أما الزهد في الكتابة بمعذرة التجرد والتواضع لو وضعناه في ميزان المصلحة العامة للعمل الإسلامي لبدا وكأنه نوع من الأنانية , وانسحاب من هذا المجال يعرض تاريخ الجماعة لتشويه وتحريف فوق ما ناله من تشويه وتحريف بمعرفة الهدامين والحاقدين والناقمين . انه من حق الطلائع المؤمنة , وحق كل باحث عن الحقيقة في حركة التاريخ : أن يعرف تجربة نصف قرن من الزمان , بكل ما فيها من دقائق وتفصيلات وايجابيات وسلبيات , يضعها أمامهم هؤلاء العارفون الذين مارسوا التجربة بأنفسهم , حلوها ومرها .
هذا وما زالت الدعاوى والاتهامات , التي ألصقها المناهضون لهذه الجماعة , تنتظر رد الإخوان وكلمتهم . ولعل في الاحتفال بهذه الذكري.. ذكري مرور خمسين عاما علي انبثاق الدعوة, أكبر حافز لكل من عنده معلومة من الأخوان أن يقدمها لأصحاب الحق في ذلك.
ألهمنا الله الرشد, سدد خطانا إلي صراطه المستقيم..
( أيام من العمر.. لا تنسي ) :
نشأت مع باكورة الدعوة , في سن مبكرة , فغذيت من رحيقها , وتدرجت في خطواتها ومنهاجها .. وعشت مع إمام الدعوة ومرشدها علي القرب فترات قليلة من الزمن, ولكنها عميقة الأثر. فاقد كنت حريصا علي تركيز انتباهي, مشدودا إليه.. عشت معه علي البعد في مشغلة نفسه بالدعوة والداعية , فتمكنت الدعوة من أقطار نفسي وتغلغلت جذورها في وجداني ومشاعري .
فلقد كان حسن ألبنا في أخلاقه وتصرفاته وسلوكه دعوة, ينجذب إليه الناس علي اختلاف ثقافاتهم ونزعاتهم, حيث أمن – رضي الله عنة – بالإسلام دعوة وبالإنسان مادتها.. فاستنهض أحاسيسه كلها , لتعمل في ميدان العقل والنفس والشعور .. فانبثقت في الناس ينابيع للخير كثيرة كانت مجهولة, وتفجرت طاقات للشباب كانت مبددة مقهورة. وأشعلها يقظة في الوجدان والمشاعر , وصحوة في القلب والوعي والشعور , فأدرك الإنسان بعد الغفلة والنسيان أنه شيء غير هذا البنيان , وأنه مذخور بكل ما تنشده الانسانيه من حق وخير وعدل , وأن الحياة إنما تقاس بعظمة المبدأ وشرف الغاية والنهاية .. فانطلق يسمو بنفسه وحسه: يبني ولا يهدم يجمع ولا يفرق.. يحب : بالحب الذي تتناجي به القلوب , وتتساقط به الذنوب , الحب الذي جمع بين المهاجرين والأنصار علي أعظم ما سجله التاريخ من آيات الفخار , الحب الذي ألف بين قلوب الأمة , فذابت به الطبقية , وتلاشت معه الأحقاد , الحب الذي إذا عطس حسن البنا في القاهرة يقول له الأخ في أسوان ( يرحمك الله ) , حب في الله , فلا إله إلا الله ولا زعيم إلا محمد رسول الله ولا دستور إلا القرآن . تلك العقيدة: هي جامعة القلوب ومؤلفة الأرواح, ومنقذة البشرية من الضلال, لا فضل فيها لأحد, ولا نسب فيها لإنسان (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان ). عاش حسن البنا في قلوبنا , كأخ وأب , يعود مريضنا , ويسأل عن غائبنا , ويعاون في حل مشكلاتنا .. يؤلف بين قلوبنا برحلات تربط القريب بالبعيد, ويباعد بيننا وبين الخصومة, حتى لا تعوق سبيلنا إلي القلوب ( فإذا الذي بينك وبينه عداوة, كأنه ولي حميم ) . استحوذت شخصية البنا علي نفوسنا وقلوبنا , لما وهبه الله تعالي من قدرة علي الملاحظة المنتجة , التي لا تفلت من يده فيستغلها وينميها ويستفيد بها . فالدقائق من حياته لا تمضي بغير حركه وعمل , وأحاسيسه وعواطفه مستمرة في الإنتاج .. حتي كانت محصلة حياته المباركة , التي لم تتجاوز الثلاثة والأربعين من السنين فوق التصور والخيال .
لم يخرج حسن البنا علي العالم بنظرية من اجتهاده , ولم يحاول أن يجرب علي ضوء ما في العالم من نظم ومبادئ براقة .. فقد أمن إيمانا عميقا لاشك معه بالإسلام دعوة وحركة , وأنه التجربة الأخيرة في الحياة الدنيا , والقول الفصل في محكمة التاريخ .. لهذا فلن تجد في طريق الدعوة الطويل – بعد خمسين عاما – تغييرا أو تبديلا في المبادئ والمناهج والأهداف , رغم الزلازل والبراكين , التي تتعرض لها الدعوة في كل زمان ومكان , ذلك لأنها تستمد وجودها من إيمان وتضحية مرشدها من أول يوم , ومن عظمة وشمول الإسلام . حياة الإمام الشهيد ومنهجه في العمل للإسلام بالأسلوب العلمي الذي تعارف عليه المختصون ,
ة