كان يهمه من الأمر أن يقدر المشتري ندرة هذا الشكل و جماله ليدفع فيها أزيد من قيمتها رغم أنه اشتراها من شخص باعه إياها بسعر بخس لحاجته إلى المال .
خلود بالنسبة للجد هي كل شيء في حياته التي لم يتبق منها إلا القليل في اعتقاده و مؤيد كمجاهد في كتائب القسام قد يسقط في مهاوي الردى في أي وقت و لحظتها لن تجد هي عائلا لها سواه لأن كل أقاربهم قد تركوا غزة منذ زمن لانعدام الأمان ذاهبين إلى مدن أخرى يدعون أن نسبة الأمان بها أعلى.. نام الجد أثناء ذكرياته تلك ثم استيقظ على صوت دوي يدك منزلا بجانبهم و لم يدر بنفسه حين انطلق إلى منزل الحاج غسان صديق عمره لكنه لم يجد إلا أطلالا تتصاعد منها الحرائق مصحوبة بدخان أسود كثيف ، اندفع وسط الزحام محاولا أن يستشف الحقيقة و عندما وصل للبقعة المرادة ابتسم في ارتياح إذ أخبره الكثير و هو يندفع بينهم أن الحاج غسان غادر مع تباشير الصباح إلى مخيم جباليا هو و أسرته فحمد الله من كل قلبه ثم رفع يديه للسماء داعيا الله أن يزيح عنهم هذه الغمة .. عاد للمنزل و نام على السرير المجاور لخلود و هو ينظر لها في حب جم ، تلك الملامح البريئة الوادعة ، تلك الجدائل الكستنائية الداكنة اللون التي تتناقض مع البشرة البيضاء الصافية التي لا يشوبها كدر مع عينين واسعتين توحيان له بأن هذه حورية من الجنة أو ملك في صورة إنسان .
خلود التي يحبها جميع أهل الحي و لم تكمل بعد الثالثة عشر .. الفتاة الجميلة التي تعدو عند عودتها من المدرسة وسط النيران كما أخبره كثير من جيرانه تساعد الشباب في إطفاء الحرائق ، يا لك من بطلة يا خلود رغم صغر سنك و فقرك وعوزك إلا أن ذلك لا يثنيك عن أن تحسي بمعاناة الناس في الأرض المحتلة ، عدو وسط النيران و مساعدة الناس ثم العودة للمنزل للمذاكرة دون تضييع أي صلاة و في بعض الأوقات تحاول أن تطبخ رغم ضعف خبرتها فيثنيها الجد عن هذا ناهرا إياها بنهر مماثل لنهره لها بالكف عن العدو وسط البيوت المشتعلة فتكون إبتسامتها الجميلة عبارة عن سيف قاطع يشطر الأمل الذي يراوده نصفين فيسقط على الأرض صريعا أمام صلابتها و عنادها و عزمها على المضي قدما في مسلك هو أعلم الناس بعواقبه ، قد تسقط عليها قنبلة، قد ينهار جدار فيدفنه تحتها ، لكنها بإرادتها القوية تخبر جدها بأن هذا شأن كثير من صويحباتها و زميلاتها في الدراسة فهذا واجبهم تجاه كثير من الناس الذين يحتاجون للمساعدة.. أخبرته مدام بثينة إحدى جاراته بأن خلود دخلت ذات يوم وسط منزل مشتعل استشهد معظم من كانوا بداخله ثم خرجت من وسط النيران التي أمسكت بطرف مريلتها المدرسية حاملة رضيعا تطرق صوته إلى مسامعها وسط الانهيارات و الانفجارات ، يومه صفعها الجد بقوة فدافعت عن نفسها منخرطة في بكاء حار أيأسه من أن يطرأ في يوم من الأيام أي تبدل على سلوكها الذي لا يليق بسنها .
في ليلة غاب فيها القمر عاد مؤيد إلى المنزل بجرح في ذراعه الأيمن
و هو يتأوه فقال الجد قلقا :- ماذا هنالك
قال مؤيد:- اقتحم بعض الجنود شمال المدينة
- و ماذا فعلتم
- سحقناهم
- كم كان عددهم
- خمسة فقط
- أجرحك خطير
قال مؤيد باسما:- سطحي
اندفعت في تلك اللحظة خلود لدى مشاهدتها الدم الذي لوث ذراع شقيقها مرتمية في أحضانه فمسح شعرها بحنان و قال:- لا تخافي يا خلود .
أزاحت الخرقة عن يد شقيقها ثم وضعت فمها على ساعده تمص الدم بشفتيها بينما مؤيد ينظر لها في شفقة .. ظلت هكذا لفترة قبل أن تغسل الخرقة و تحكمها حول ساعد شقيقها ثم تلفها برباط ضاغط و هي تذرف الدموع .
قال مؤيد بعجلة :- حسبك يا خلود ، كفي عن البكاء
قال الجد:-إنها رقيقة المشاعر جدا يا ولدي، لقد سهرت الليلة الماضية تبكي لدى مشاهدتها قطة سقط عليها جدار فقتلها
قال مؤيد ساخرا:- و ماذا عن القتلى حولنا
قالت خلود و هي تقاوم الدموع:- يا أخي ، والله لا أقوى على رؤية الجثث . هل تعلم ماذا أفعل ، لن تصدق ، أنا أنظر للأرض طوال طريقي إلى البيت و لا أتلفت إلا للضرورة من أجل ألا تقع عيناي على جثة أو أشلاء .
أمسكها مؤيد من يدها قائلا:- هيا للنوم ،عندك مدرسة غدا
اقتادها للسرير و بينما هو يغطيها قالت له:- أما زالت يدك تؤلمك
قرصها من خدها قائلا:- هذا لا شيء يا حمقاء ، نامي
تركها عائدا لجده و شرع يبعثر محتويات جيوبه على المنضدة فلفت انتباه الجد وجود محمول غريب فتساءل:- لا يخصك هذا المحمول
قال مؤيد:- لأحد القتلى الصهاينة
- أرنيه
ناوله مؤيد المحمول قائلا:- كله بالعبرية
التقط الجد نظارته و هو يتذكر كيف تعلم العبرية من صغره لعمله الدائم في المدن الاسرائيلية مع تجار يهود في شتى الحرف عندما كان صغيرا لكن المهنة التي أكسبته احتراف العبرية كانت العمل في مكتبة ضخمة يملكها يهودي مغربي يدعى رشيد كان لا يمل من تعليمه العبرية كلمة كلمة و حرفا حرفا حتى أنه بعد خمسة أعوام من عمله بالمكتبة كان يقرأ كثير من الكتب العبرية دون مساعدة من أحد .
أمسك الجد المحمول و دخل على الاستوديو الذي يخص الصور ليطالعها بشغف.. صورة لشخص رجح الجد أنه الجندي القتيل مع زوجته و طفل صغير ناعم الشعر يتوسطهما .
الصورة الثانية في ميدان بيكاديللي في لندن وسط الزحام و يتضح فيها أن الطفل كبر قليلا .
الصورة الثالثة لزفاف في معبد يهودي ... الصورة الرابعة مع عدد من الجنود يدهنون وجوههم بالسواد.. الصورة الخامسة لعجوز من الراجح أنها والدة الجندي القتيل إذ تشبهه جدا .. الصورة السادسة لحاخام يهودي يبارك رأس جندي وجهه متشح بالسواد .. صورة يظهر فيها كثير من الناس وسط حديقة غناء .
مل الجد من الصور فانتقل للرسائل المخزنة على الهاتف ليقرأها فلم يجد غير أربع رسائل واحدة واردة و ثلاث صادرات فأخذ يقرأها على مهل .
الرسالة الأولى بتاريخ 4\4\ 2008
عزيزي ناحوم :- آمل أن تكون سعيدا مع والدتك في لندن ، أخيرا وفقت والدتك للزواج من شخص انجليزي محترم و ليس وغدا كسامي وولتر الذي أهان أمك كثيرا قبل أن تتركه غير آسفة و لا نادمة .. أخبر ليليا بتحياتي القلبية الحارة و حاول إقناعها بأن تأتي لتقيم في أرض الميعاد
و أن تترك اعتقاداتها الفاسدة ، أحبك أكثر من أي شخص في الدنيا
و صامويل يرسل إليك أشواقه الملتهبة فقد أوحشته كثيرا ، الأجواء هنا في تل أبيب هادئة و الطقس مشمس رائع .. أتمنى عودتك سريعا فهناك خبر أتمنى أن يسعدك كثيرا .
الرسالة الثانية بتاريخ 7\6\ 2008
عزيزتي سارة ..
عساك تكونين بخير .. أتمنى أن يكون هذا الخبرالسار هو وصول حفيدة جميلة تملأ علينا الدنيا بهجة و سرورا.. ناحوم هنا سعيد للغاية
و أحاول إقناعه بالبقاء هنا و الحصول على إقامة و من ثم تأتين أنت
و صامويل إلينا للبقاء إلى الأبد ، لا أريد العودة إلى إسرائيل فأصوات الانفجارات تدمر نفسيتي و تجعلها في الحضيض .. انسي أرض الميعاد و كل ما يتعلق بها فالأمان و راحة البال هو ما أنشده في أعوامي المتبقية التي آمل أن تطول .. أحضر هنا مباريات الأرسنال و توتنهام مع زوجي تشارلز باكون الذي يعشق كرة القدم و أتمنى أن تنسي إسرائيل
و تحضري إلى هنا فالحياة في مدينة الضباب ممتعة للغاية .
الرسالة الثالثة بتاريخ 14\9\ 2008
عزيزتي سارة ..
صورة الجنين التي أرسلتيها لي عبر البريد الاليكتروني رائعة ، أعتقد أنها ستكون أنثى جميلة تشبهك في ملامحك الرائعة ، سأعود إلى تل أبيب بعد شهر تقريبا رغم كل اعتراضات ليليا و صخبها و ضجيجها و إزعاجها .. بالنسبة لها أرض الميعاد خرافة أما بالنسبة لنا فهي قدس الأقداس .
انتظريني يا حبيبتي في المطار يوم 15 \ 9 الساعة الحادية عشر مساء فأنا أحمل لك الكثير من الهدايا .
الرسالة الرابعة بتاريخ 12\1\ 2009
عزيزتي سارة .. أوحشتيني كثيرا يا روح قلبي ، الجيش يخطط لاقتحام غزة و إبادتها عن بكرة أبيها .. المقاومون هنا شرساء للغاية وغدا سوف نقتحم الجهة الشمالية للمدينة قابعين على أول خط هجومي لقواتنا .
آمل أن نتمكن من احتلال تلك المدينة المتعبة التي تشكل صداعا لكل من أولمرت و ليفني .. أتذكر الآن كلماتك حول سياسة قادتنا الذين يتخذون من اقتحام غزة ذريعة لتغطية فضائحهم السياسية لكن هذا أمر لا يعنيني .
أنا أحارب من أجل رفعة بلادنا لكن صور القتلى الماثلة أمام عيني تصيبني بالإحباط .. معظمها يا سارة لنساء و أطفال سقطوا تحت القصف الجوي العنيف ، تحياتي القلبية الحارة.