[b](في ذكرى مذبحة غزة في يناير 2009)
][size=24]
ما الذي يحدث يا جدي ؟ أي سلوك هذا الذي يسلكه اليهود .. مللنا الذل والهوان يا جدي و النيران تتساقط علينا تساقط المطر الغزير على الأراضي الرملية فتتناثر الأشلاء و يتقوض البنيان .
نظر لها بابتسامة حزينة جاهد نفسه لكي يرسمها على ملامحه قائلا:- إنها الحرب يا خلود و هي لا تحترم أحدا
قالت بتجهم :- حرب إذا واجهونا على الأرض ، هذه ليست حرب و إنما قصف جوي
قال:- يا ابنتي ، هم لا يطيقون الخسائر البشرية مهما كانت ضئيلة و إذا نزلوا إلينا حل بهم الخراب و الدمار ، سنك الصغيرة لا تسمح لك بأن تفهمي أبعادا و ملابسات لا يعيها عقلك الصغير .
اقترب منهما حفيده مؤيد قائلا :- طبخت لكم فاصوليا
قال الجد بأسف:- لعلها تكفي
التفوا حول المائدة فإذا بالطعام قليل جدا فقالت خلود عابسة :- ما أقله
قال الجد ضاحكا:- بل هو كثير ببركة الله
ثم دفع طبق الفاصوليا تجاهها قائلا:- كلي يا ابنتي
نظر إليه مؤيد مجاهدا دموعه ثم تناول كسرة خبز من على المائدة
و وضعها في فمه قائلا:- أكلت
ثم ذهب و عاد مرتديا ملابس داكنة قائلا:- أنا ذاهب لكتيبتي
قال الجد بوجل:- أدعو الله لك بالتوفيق
- ليتهم ينزلون لمواجهتنا
- إن غدا لناظره قريب يا ولدي
قالت خلود لحظتها:- ألن تأكل يا جدي ، تركت لك بعض الطعام في الطبق
ربت على كتفها قائلا:- كلي يا خلود حتى يشتد عودك ، أنا شبعان
أكملت خلود طعامها بتلذذ ثم قالت:- أنت قوي حقا يا جدي
قال بوقار:- خلقنا للمكابدة يا حبيبتي
خرج لحظتها مؤيد من المنزل و هو يلقي السلام بينما دوى صوت الانفجارات من جديد ، قفزت خلود في صدر جدها الذي احتضنها قائلا :-
لا تخافي يا ابنتي
بينما هو يضمها نظر إلى الصورة المعلقة على الحائط التي تضم كلا من ابنه و زوجته و مؤيد و طفلة رضيعة صغيرة كانت هي خلود .. الذكريات مؤلمة و اجترارها صعب في عقل استمرأ الألم و اعتاد الهم المختلط بالأسى ، المتنفس الوحيد له هو بقاؤه بجانب حفيديه الحبيبين بعد أن غادر الوالد أرض غزة منذ ردح من الزمن و لا أحد يعرف أين ذهب .. ترامت إليه أنباء عن هجرته إلى الولايات المتحدة فقال لمروجي الإشاعات بأن ادعاءاتهم باطلة لكنه في قرارة نفسه كان يلعن ابنه
في سره .. أبعد كل هذه السنوات في أرض الوطن يترك غزة و يذهب دون عودة و في النهاية تصل رسالة من ابنه أخفاها عن الجميع يعلمه فيها أنه كره كل ما يمت لفلسطين بصلة ، كره فتح وحماس و منظمة التحرير الفلسطينية ، كره رائحة البارود المختلط بصوت قعقعة العظام و سيلان الدم من الأجساد ، كره الصهاينة و أشجار الزيتون و حائط المبكى و قبة الصخرة .. طوال عمره يحلم بالسلام و بأن يحيا حياة طبيعية لكن القدر لم يمهله فماتت زوجته إثر طلقة طائشة في أحد الأسواق لا يدري أحد من أين انطلقت ؟؟ و عندما ارتمى على جثتها و صرخ و بكى لم يعره أحد اهتماما فهذا مشهد كثر و حل التبلد محل الإشفاق و الرثاء في قلوب رأت الموت جهارا مرارا فلم تعد تحفل بالمشهد القاسي الذي يذيب ثلوج القلوب المتجمدة .. حمل زوجته و دفنها و انتهى الأمر ، عاش مع والده و طفليه و حاول الزواج ففشل .. كان يحمل حبا خالصا للفقيدة فقد كانت تمثل له كل شيء جميل في هذا العالم الأسود المليء بالمتناقضات التي يختلط فيها اللون الأسود بالأحمر بالرمادي فلا ينتج عن ذلك إلا لوحة شوهاء رسمها الزمن .
ذات يوم تعارك مع مؤيد إثر انضمامه لكتائب القسام فما كان من ابنه إلا أن هاجمه كذئب شرس و أخذ يعدد معايبه و قبيح صفاته و والده ينظر إليه مذهولا .. قال له الجد وقتها:- يا بني ، تعلم بر الوالدين كما تتعلم القتال .
من يومها و الرجل لا يطيق النظر في وجه ابنه بيد أنه كان يحب خلود كثيرا و عندما غادر ودن علم أحد ترددت أخبار عن هجرة عدد من الفلسطينيين لأمريكا بطريقة ماكرة دبرها أحد أعضاء الكنيست الإسرائيلي بالاشتراك مع أحد عرب ثمانية و أربعين جانين من ذلك المال الكثير الذي حولاه إلى بنك أجنبي لتتضخم ثرونهما المتضخمة أصلا .. مجتمع تجتمع فيه المتناقضات و يختلط فيه الجد بالهزلو لكن الجد العجوز لعب دور ربان السفينة رغما عنه و صبر و تجلد حتى تمكن من اختراق العواصف الهوجاء ، ثار مؤيد و اتهم والده بالخيانة و العمالة لكن الجد ما كف
عن نصحه بالتزام الهدوء و التقرب إلى الله حتى تهدأ ثائرة نفسه .. أما خلود فبكت بكاء مرا لإحساسها باليتم و هي لا تزال بعد في عامها السابع بيد أن الجد الحنون بذل كل ما في وسعه لينتشلها من التردي في مهاوي القهر و الحزن و ساعده على ذلك شدة بأس مؤيد و تحمله المسئولية كرجل صغير .
وجد الجد في الخطاب الذي أرسله ابنه من الولايات المتحدة سلسلة فضية صغيرة رقيقة كان ابنه يعتز بها كثيرا لأنها كانت سلوانه عن فقد زوجته الحبيبة التي كانت ترتديها دائما لكنه الآن قد هاجر و ترك الجمل بما حمل قلا مانع من إهدائها إلى حبيبة قلبه و مهجة فؤاده خلود خاصة أن الطفلة كانت تحمل شبها كبيرا بأمها مع وعد في ذيل الرسالة بأنه سيعود يوما ليصبح الأمر كمطر شديد غزير هطل على أرض بوار فأخرجت من جميل الزروع و طيبات الثمار ما لم يكن في الحسبان ، وقتذاك قال الجد لنفسه ساخرا بأن هذا الكلام غير منطقي لسبب بسيط و هو أنه إذا كان ابنه متعلق بهم حقا لماذا تركهم على هذا النحو الشنيع الذي عرضهم للقيل
و القال و ما أكثرهما في أرض أغصان الزيتون فما أن يختفي شخص ما حتى تلوك سيرته الألسن لتتهمه بالعمالة لصالح إسرائيل و أن قيادات حماس كانت على وشك الإيقاع به فاختفى ليلوذ بالأمان في أحضان أحبابه اليهود .. وا حسرتاه على مجتمع كثرت فيه الخيانة و تفشى فيه المكر
و الخداع إذ كيف يتسنى لقوم يقاتلون عدوا لا يكف عن سلخهم و سحلهم أن يخونوا بعضهم بهذا الشكل المزري الفاضح مقابل حفنة من الدولارات يتقاضونها بعد فقر طال و يأس عصف بالآمال التي خبا بريقها فاستحالت تلك الدولارات إلى أهداب أمل يتعلقون بها حبا لأي حياة و إن كانت تحمل في طياتها الذل و الهوان ، بئس القوم إن كانوا كذلك ، نعم لطالما قال الجد ذلك لنفسه مع تيقن تام بانعدام الأمل في النصر طالما استمرت الأمور سارية على هذا النحو ، و بين ثنايا التفكير و التطلعات المستقبلية للجد قام دون وعي و وضع آية كرسي فضية كانت تخص الأم في السلسلة التي أرسلها ابنه و في الصباح كانت رقبة خلود مزدانة بها إلى يومنا هذا
و الجد لا يكف عن إلحاحه في أن ترتديها عند ذهابها للمدرسة كل صباح بينما يقول مؤيد بابتسامة هادئة أن الحذر لا يغني من القدر .. العلامة المميزة لهذه الآية الفضية أن شكلها لم يكن اسطوانيا أو مستطيلا و إنما كتبت بشكل لولبي متعرج جميل حتى أن والدة خلود عندما اشترت هذه الآية من تاجر الفضيات دفعت ضعف ما يدفع في وزنها لندرة هذا الشكل الجميل الذي لم يعرف تاجر الفضيات من الذي أبدعه بهذه الطريقة فكل ما
[/b]