يطالعنا التنجيم ومعتقدات أسطورية كثيرة حول الأفلاك السماوية، في معظم الحضارات القديمة، بدءاً من أقصى الشرق في الصين والهند، مروراً بحضارات بلاد الرافدين ووادي النيل مع البابليين والرومان واليونان والعرب، وصولاً إلى حضارات أمريكا الجنوبية مع المايا والأناسازي، حتى أنه امتد في الأوساط العلمية حتى عهود قريبة.. فالفلكي الدانمركي تيخو براهي (في القرن السادس عشر) عمل به، ومعاصره الألماني يوهانس كبلر ألف في بداياته عدة تقاويم تنجيمية أطلق فيها عدداً من التنبؤات لأنه كان يرى أن ثمة نوعاً من العلاقة الغامضة تقوم بين مصير فعاليات الإنسان وبين حركات النجوم والكواكب.. حتى أن نيوتن العظيم ربما كانت له في بداياته وجهة النظر ذاتها.. أما أبو الفيزياء العصرية (والتعبير لآينشتاين) الإيطالي غاليليو غاليله فلم يأخذ بهذا الرأي فهو وفي كتابه (حوار حول المنظومين الرئيسيين) وعلى لسان ساغريدو وسلفياتي يشير إلى أن تنبؤات المنجمين غالباً ما تكون غامضة ولا تفهم إلا عندما تتحقق، حيث يتم استخلاص التنبؤات من بروج السماء لكن بعد تحقق النبوءة..
وإذا كنا نعذر الأقدمين على أخذهم بتلك الأفكار (لقلة معلوماتهم وأدواتهم) فإننا لا نجد اليوم ما يبرر ذلك الإسفاف الذي تطالعنا به الفضائيات والإذاعات والصحف عبر تقديمها من يسمون أنفسهم علماء فلك!! ونستغرب كما ريتشارد فاينمان (وهو من أكابر علماء القرن العشرين) حين قال في إحدى محاضراته حول ميكانيك نيوتن: "إن الإلمام بقانون التثاقل لا يتعدى تطبيقاته التي تخطر لي: التنقيب الجيوفيزيائي والتنبؤ عن المد والجزر، ويفيد اليوم في دراسة محارك الأقمار الصنعية وسابرات الفضاء التي نرسلها عالياً بين النجوم، وأخيراً وهذا عصري أيضاً يفيد في حساب مواقع الكواكب مما يخدم جداً التنبؤات التنجيمية التي ينشرها المنجمون في الصحف.. عجيب أمر هذا العالم الذي نعيش فيه والذي لا يستخدم تقدمنا العلمي الجديد إلا لتخليد سخافات عتيقة عمرها آلاف السنين".
ارتبطت أمور كثيرة في حياة البشر القدامى بالأجرام السماوية وخاصة الأفلاك السبعة المعروفة آنذاك (وهي: القمر، الشمس، عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، وزحل) دون أن يستطيعوا التمييز بين الكوكب والنجم والتابع! فهم كانوا يظنون أن الأجرام السماوية لا تخضع لنفس القوانين الأرضية حتى أنها مكونة من مواد أثيرية تختلف كلياً عن المواد الأرضية! وقد أطلقوا أسماء آلهتهم عليها وربطوا أيامهم وسنينهم بها وقسموها إلى أفلاك سعد ونحس وحرب وخير وزراعة وتجارة وجمال.. حتى أن بعض الحضارات قدست أرقامها كالرقم سبعة، وبعضهم أوجدوا ابتهالات وصلوات لحوادث الكسوف والخسوف، وأوجدوا علاقات وهمية بين ارتصاف هذه الأفلاك ومواعيد شروقها وغروبها وظهور النجوم ذات الشعر (ونعرف اليوم أنها ليست نجوماً بل مذنبات) مع ولادة ووفاة الملوك والقادة والشعراء أو مع نشوب الحروب والكوارث والأحداث العظام.. وكان فيثاغورس وأنصار مدرسته قدسوا الرقم أربعة (وهو عدد الأرقام 1,2,3,4 والتي يعطي مجموعها الرقم 10 المميز أيضاً)، وعمد أرسطو بعدها إلى تقسيم مواد الطبيعة إلى أربعة أنواع: تراب وماء (وهما ينـزعان إلى السيلان) ونار وهواء (وينـزعان إلى الارتفاع) وقال أيضاً بالسوائل الأربعة وبالطبائع الأربعة (اليبوسة والحرارة والرطوبة والجفاف).. أما اليوم فنحن استبدلنا النـزوع إلى السيلان و النـزوع الارتفاع بالقوى الأربعة (الثقالة والكهرطيسية والنوويتين الشديدة والضعيفة) والتي قد تكون قوة واحدة، ومع ذلك نرى اليوم المنجمين يقولون لك أنك من برج كذا وهو برج ناري أو ترابي..!! فما هي حقيقة هذه الأبراج ولماذا لم يتخلص منها العلم حتى الآن؟؟
إن الأبراج ما هي إلا لصاقات اسمية لتشكيلات نجمية (وعندما نقول نجم نعني شمس)، لماذا لصاقات؟ لأن نجوم هذه الأبراج لا علاقة فيما بينها على الإطلاق، وهي تبعد عن بعضها وعنا مسافات هائلة، فقد يحتوي برج ما على نجمين مختلفين، أحدهما كبير جداً ولكنه بعيد جداً، والآخر صغير ولكنه قريب، فنشاهد هذين النجمين من على الأرض بنفس التألق وفي قطاع رؤية واحد فنظن أنهما من نفس الحجم ويبعدان عنا نفس المسافة، كذلك كانت حال الأقدمين عندما شاهدوا القمر (وهو صغير جداً وقريب من الأرض) والشمس (وهي بعيدة وكبيرة) بنفس الحجم الظاهري، فاعتقدوا أنهما من نفس الحجم ويبعدان عن الأرض بنفس القدر!! فيما نحن نعلم اليوم أن الشمس تبعد عن الأرض أكثر من بعد القمر بحوالي 40 مرة، وقطرها أكبر من قطر القمر بحوالي 400 مرة وكتلتها أكبر من كتلته بحوالي 27 مليون مرة!
أما عدد الأبراج فليس 12 فقط كما ينادي معظم المنجمون! ففي القرن الثاني الميلادي كان بطليموس قد أحصى 48 برجاً، وقد أضيف إليها فيما بعد 40 برجاً ليصبح العدد 88 وهو معتمد اليوم في جميع الخرائط، وقد أبقى العلماء على استخدام هذه الأبراج لأنها دخلت في جميع التسجيلات الفلكية القديمة ولأنها تفيد في تقسيم الخارطة السماوية، كما تساعد على معرفة مواقع النجوم ومواعيد شروقها.
إن معلوماتنا اليوم عن حالة نجوم الأبراج تقتصر على معرفة تاريخها القديم.. فمثلاً عندما ننظر اليوم إلى نجم Antares (قلب العقرب) في برج العقرب، فإنما نشاهد حالة هذا النجم الأحمر قبل نحو 600 سنة، لأنه يبعد عنا تقريباً 604 سنة ضوئية (أي أن الضوء الذي نشاهده اليوم انطلق منه بسرعته المعهود 300000 كم/ثا منذ 604 سنة)، وهناك نجوم أبعد بكثير، مثل نجم الذنب في برج الدجاجة، وهو يبعد عنا حوالي 1400 سنة ضوئية، أي أن ما نشاهده اليوم هو نجم الذنب كما كان حاله قي القرن السابع الميلادي!!
لم يقدر للإنسان قبل القرن العشرين وقبل نسبية آينشتاين أن يدرك أن "الآن" غير موجودة في القاموس الكوني، لذلك فالتغيرات الحاصلة في نجوم الأبراج (والتي يتشدق المنجمون أنها تتحكم بعالمنا) لن ندركها ونتلمس آثارها (إن كان لها أثر غير مفعولها الثقالي المهمل بالنسبة إلينا، وفوتوناتها الضوئية) إلا بعد مضي مئات السنوات من اللحظة التي حصل فيها هذه التغير..
أمر آخر.. إن المشهد السماوي الذي نراه اليوم (وهو لا يختلف كثيراً عما شاهده الإنسان القديم) ليس ثابتاً.. فهو يتغير مع مرور الوقت، لكنه يحتاج إلى مدد زمنية كونية (لا بشرية).. هذا التغير يحدث لعدة أسباب، منها:
· حركة نجوم الأبراج (والتي لبعدها الكبير ظن القدماء أنها مثبتة على القبة السماوية!) ومثالها نجم أركتورس الذي يبعد عنا حوالي 37 سنة ضوئية، فهو يتحرك بشكل معامد لحركة الحشد الذي يضم شمسنا، لذا فإن أركتورس لن يكون مرئياً لناظر من الأرض بعد 450 ألف سنة.
هذا بالإضافة إلى حركات الأرض المتعددة (الخاصة بها والمشتركة مع نجمها المركزي)، وأبرزها تأثيراً على هذا المشهد:
· ترنح محور دوران الأرض حول نفسها والذي ينجز دورة واحدة كل 25800 سنة.
· حركة الأرض (بمرافقة الشمس) حول مركز المجرة وتنجز هذه الدورة كل 250 مليون سنة.
· نوسان الشمس (ومعها أفراد أسرتها) المعامد لمدارها حول مركز المجرة، وتستغرق هزة واحدة حوالي 28 مليون سنة.
تغير مهم آخر على المشهد السماوي يتمثل في ابتعاد القمر عن أرضنا، هذا الابتعاد الذي يقدر بحوالي 4 سم سنوياً، وسيسفر عن تخلص القمر من قبضة الثقالة الأرضية بعد حوالي 30 مليون سنة، بعدها ستنعدم أحداث الكسوف والخسوف ويزداد تعرض الأرض للنيازك وستختفي ظاهرتي المد والجزر وتنخفض بالتالي معدلات حت الشواطئ، كما ستتسارع دور الأرض حول نفسها (من الغرب إلى الشرق) مما قد يسبب رياحاً شديدة (من الشرق إلى الغرب) تؤثر على التنفس وعلى المبادلات الحرارية بين الكائن ومحيطه وكذلك على الأصوات المسموعة، إلا أن جميع هذه الآثار المهمة (وغيرها) لن تحصل فجأة.. بل تحتاج إلى فواصل زمنية من مرتبة عدة عشرات من ملايين السنين!!
بالإضافة إلى الآثار السابقة المترتبة على فقدان القمر، فإن لوجوده الحالي آثار مميزة على الحياة الأرضية، ومعظمها ينجم عن قوة جذبه الثقالي، من أبرز هذه الآثار تلاؤم بعض الكائنات البحرية (كالمحار) مع دورية ظاهرتي المد والجزر، كما أن هناك رابطاً بين الشهر الشمسي للقمر (أي المدة الفاصلة بين وضعين متتاليين يكون فيهما القمر على استقامة واحدة مع الأرض والشمس وتساوي 29.5 يوم) ومتوسط طول الدورة الشهرية عند المرأة.
ولاشك أن للشمس أيضاً تأثيراً هاماً على الأرض، فبالإضافة إلى أن كوكبنا يسير في مداره في الفضاء تحت تأثير جذبها الثقالي، فهي مصدر طاقتنا، كما أننا عرضة للتغيرات التي تطرأ عليها (كالرياح والبقع الشمسية)، إلا أن هذه التأثيرات (وغيرها) للشمس والقمر مع أهميتها لا يمكن أن تبرر لنا ما ينسبه المنجمون لخضوع الإنسان لتحركات وانتظامات الأفلاك..
حقاً عجيب أمر هذا العالم، وعجيب أمر إنساننا المعاصر.. ويحق لنا أن نستغرب مع شكسبير عندما قال في رائعته (الملك لير) وعلى لسان إدموند: "أليس هذا منتهى الحماقة من الناس؟ حينما تضطرب أمورنا –وهذا ما يكون غالباً نتيجة إفراط في سلوكنا نحن- تجدنا ننحي باللائمة على الشمس والقمر والنجوم ونجعلها هي المسؤولة عن كوارثنا؟! كما لو كنا أشراراً بالضرورة! حمقى بدافع جبري من السماء! وأوغاداً ولصوصاً وخونة بتأثير سلطان الأفلاك علينا! سكيرين وكذابين وزناة بسبب طاعتنا الحتمية لأوامر الكواكب! وكما لو كان كل شر في نفوسنا نتيجة دافع علوي خارج عن إرادتنا! وهكذا يجد الإنسان الفاسق مهرباً رائعاً لنفسه فينسب مزاجه الشهواني إلى فعل نجم من النجوم..".