الجائزة الذهبية
لا أعرف ما اذا كنت سوف تتذكرني أم لا؟.. لكني علي أية حال واحد ممن كتبوا إليك بهمومهم ذات يوم ونشرت رسالتي ورددت عليها بما مازلت أذكره حتي الآن وبعد9 سنوات من نشرها.. فأما رسالتي الأولي لك فلقد اخترت أنت لها عنوانا معبرا هو لهيب التجربة وقد كتبتها لك وأنا طريح الفراش لما يقرب من العامين بعد تعرضي لحادث ترام أليم في مدينتي الاسكندرية, وكنت وقتها في الثامنة عشرة من عمري, وطالبا بالمرحلة الثانوية, وقد أجريت لي عدة عمليات جراحية خرجت منها وساقي اليمني أقصر من ساقي اليسري, وبدا لي وقتها أن الدنيا قد أظلمت في وجهي, وأصبحت واحدا من المعاقين بعد أن كنت شابا ممتلئا بالصحة والحيوية وحب الحياة, وشكوت لك في رسالتي من خوفي من المستقبل.. بعدما تعرضت له من أحداث.. ورددت علي بما يدعوني إلي التفاؤل والتمسك بالأمل في الغد.. وقلت لي انني شاب والحياة ممتدة أمامي, وسوف تتسع لتحقيق كل آمالي فيها, واننا كبشر لا نملك أن نعترض علي حكم القضاء فينا, لكننا نملك ألانسمح لما حكمت علينا به المقادير بأن يحطم ارادة الحياة فينا.. أو يحرمنا مما نستطيع تحقيقه لأنفسنا اذا نحن غالبنا ظروفنا, وتحملنا أقدارنا بشجاعة, وتواءمنا مع المتغيرات الجديدة في حياتنا.
ومع انني لن أفقد إيماني بربي أبدا حتي في أتون المحنة نفسها, إلاأن كلماتك الحانية قد زادتني إيمانا وشجعتني علي التمسك بالأمل أكثر وأكثر.. ونظرت فوجدت أمي وشقيقاتي الثلاث يلتففن حولي ويحيطنني بحبهن وحنانهن ورعايتهن ووجدت أهلي وأصدقائي يحيطون بي من كل جانب, ويتطوعون لتلبية رغباتي واحتياجاتي, فسألت نفسي: وماذا ينقصني لكي أستكمل مشوار الحياة وأتجاوز هذه المحنة؟.. ووجدت الجواب حاضرا فقررت التقدم لامتحان الثانوية العامة من المستشفي وأقبلت علي مذاكرة دروسي بكل همة وعاونني أصدقائي في ذلك بكل شهامة وتقدمت للامتحان, فوفقني الله سبحانه وتعالي في الحصول علي الشهادة, وسعدت أسرتي بنجاحي سعادة طاغية وبكت أمي وشقيقاتي بدموع الفرح.. وشاركهن الأهل والأحباء الفرحة الطاغية.. وكأنني الطالب الوحيد الذي حصل علي الشهادة ذلك العام.. وغادرت المستشفي الذي دخلته حطاما من الناحية الجسدية والنفسية, وأنا حاصل علي الثانوية العامة والتحقت بكلية التجارة, واجتزت سنوات الدراسة كلها بنجاح.. ولم يشعرني أحد بأنني إنسان مختلف عن غيري من الطلبة رغم أن مشيتي غير طبيعية, وتخرجت في كليتي.. وبدأت رحلة البحث عن عمل ملائم لي.. وبسبب اصابتي التي ظننت حين وقعت أنها قد أنهت كل آمالي, حصلت علي فرصة عمل بشركة النيل للكبريت ضمن نسبة الـ5% من المعاقين التي تعينهم الشركات العامة في وظائفها..
وسعدت بعملي وحياتي ورضيت عنهما, غير أنني منذ فترة قصيرة وجدت أمامي فرصة متاحة للهجرة إلي أمريكا, وترددت في الاقدام علي التجربة في البداية خوفا من أن يحزن ذلك أمي الغالية وشقيقاتي الحبيبات.. لكني وجدت تشجيعا منهن علي عدم التردد وسافرت لأمريكا وعانيت صعوبات البداية الكثيرة.. وتحملت عناء كبيرا حتي كدت بعد بضعة شهور أسلم باليأس من النجاح وأرجع لبلادي, فاذا بالاصابة التي اعتبرت يوم تعرضي لها أسود الأيام في حياتي, تتدخل لانقاذي من ظلام اليأس والفشل, وأتاحت لي هذه الاصابة الالتحاق باحدي مدارس تأهيل المعاقين هناك, حيث قمت بدراسة الكمبيوتر فيها لمدة ستة أشهر, وبعدها تمكنت بفضل الله وتوفيقه من العمل كموظف حسابات بالشركة التي مازلت أعمل بها حتي الآن.
ولم يكن كل ذلك سوي جزء ضئيل من جوائز السماء التي بشرتني بها اذا أنا صمدت لمحنتي وتمسكت بايماني بربي ونفسي وحقي في الحياة, فلقد كانت أمي تلح علي دائما في رسائلها إلي واتصالاتي بها بأن أتزوج لكي أجد من ترافقني في رحلة الحياة.. وكانت رغبتي دائما هي أن أتزوج من مصرية مثلي, لكن المشكلة هي أنني اذا أردت أن أفعل ذلك فلن يكون أمامي خيار سوي الزواج العائلي الذي لايسبقه حب يعمق الروابط بين الطرفين, ولم أكن أفضل هذا النوع من الزواج.. لكني قبلت بما لم يكن متاحا لي غيره.. ورشحت لي أسرتي زميلة لزوج شقيقتي كان والدها أستاذا بجامعة الاسكندرية, ورجعت إلي مصر في زيارة قصيرة لكي أري أمي وشقيقاتي وأهلي وأري العروس المرشحة لي منهم, وذهبت إلي اللقاء الأول معها في مكان عملها.. وأنا أتساءل كيف يمكن أن يؤدي مثل هذا اللقاء العابر إلي بدء علاقة ارتباط عاطفي بين شخصين لم يتعارفا من قبل لكي يتشاركا في رحلة الحياة.. وتم اللقاء فاذا بي أشعر من اللحظة الأولي بانجذاب شديد لهذه الفتاة التي أراها لأول مرة وبغير أن أعرف سببا واضحا لهذا الانجذاب, ووجدتني أبلغ أسرتي بموافقتي عليها وابتهاجي باختيارها لي وذهبت مع أمي وزوج شقيقتي وصديق للأسرتين لمقابلة والدتها وشقيقها, والاتفاق علي الأمور المادية, فلم نختلف علي شيء وتم الاتفاق سريعا علي اتمام الخطبة خلال أيام, وشعرت بالارتياح الشديد لذلك ورجعت إلي أمريكا, وقضيت بها احد عشر شهرا ثم عدت للاسكندرية لاتمام الزواج والزفاف, وتم الزواج وقضيت فترة العسل القصيرة ثم ودعت عروسي ورجعت لأمريكا لكي أبدأ محاولاتي لاستقدامها إلي هناك فلم تمض عشرة شهور أخري حتي كنت قد حصلت علي الجنسية الأمريكية وأصبح ميسورا لي أن أستقدم زوجتي للاقامة معي وقمت بالاجراءات وبعد شهرين لحقت بي زوجتي في أمريكا وبدأنا الحياة الفعلية المشتركة بيننا, وفهمت حينذاك فقط سر هذا الانجذاب الغامض الذي شعرت به تجاهها في اللقاء الأول, نعم ياسيدي.. صحيح أن الأرواح جنود مجندة ماتعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف, لكنه صحيح أيضا أن لهذا الائتلاف أسبابه في شخصية كل طرف.. ولقد عرفت بالعشرة والسكن أسباب ائتلاف روحي مع روح هذه الفتاة التي رأيتها لأول مرة في مكان عملها منذ ثلاث سنوات, فهي إنسانة مخلصة بكل معني الكلمة وحيية ومنبسطة الأسارير علي الدوام, ولم أرها منذ جمعتنا الحياة المشتركة يوما متبرمة من شيء أو ساخطة علي شيء وتخاف علي وتتقي الله في وفي بيتي وتصبر علي عصبية مزاجي التي لاحيلة لي فيها في بعض الأحيان حتي لتشعرني بالخجل من نفسي.. وأحس أحيانا انني لا أستحقها, أما أنا فاني أحبها وسوف أظل أحبها إلي النهاية بإذن ربي, وأسعي لاسعادها بشتي الطرق, وأرجو من الله أن تكون عشرتي لها طيبة بحيث تظل تحمل لي مشاعر المودة والرحمة حتي نهاية العمر وما بعدها أيضا! فالمودة والرحمة لاتنتهيان بنهاية العمر وانما تتواصلان بعده.. وأمي مازالت حتي الآن وبعد16 عاما من رحيل أبي عن الحياة رحمه الله, تدمع عيناها كلما تذكرته أو استعادت بعض ذكرياتها معه, ولقد تابعت رسائل الأزواج والزوجات الذين تراشقوا بالاتهامات في بريد الجمعة خلال الفترة الماضية, ووددت لو أقول لهم جميعا: اتقوا الله في أزواجكن وزوجاتكم لكي يجعل الله لكم مخرجا ويرزقكم من حيث لاتحتسبون.
ولقد انهمرت علي جوائز السماء بعد ما تعرضت له من محنة حادث الترام كما رويت لك لكن أجمل هذه النعم وأكثرها استحقاقا لشكر ربي عليها, كان نعمة التوفيق في الزواج والارتباط بهذه الإنسانة الطيبة التي تعتبرها أمي بنتا من بناتها الثلاث وتعتبرني أمها ابنا لها.
ولقد حرصت علي أن أكتب لك بما شهدته حياتي من تطورات بعد المحنة القديمة لكي تسعد معي بما بشرتني به من جوائز ولكي أرجو منك ومن قرائك الطيبين الذين يتعاطفون مع آلام الآخرين وآمالهم في الحياة.. أن تتوجهوا معي بدعائكم إلي المولي القدير أن يمن علي وعلي زوجتي بنعمة الذرية الصالحة التي يتوق إليها كلانا وما ذلك علي الله بعزيز.. وأشكرك علي كلماتك السابقة واللاحقة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..