لا تأتمن على أحزانك إلا النبلاء، وحدهم
يمكن أن يشاركوك فيها ويخففوا عنك أثقالها. أما الأوباش فمن شأنهم أن
ينحطوا بأحزانك ويبتذلوها ويجعلوها ممجوجة ومنفرة. للناس فى حزنهم
مذاهب، وأنا وأنت لم نحزن على رحيل محمد علاء مبارك لأنه حفيد رئيس
الجمهورية، بل لأنه طفل برىء خطفه الموت وحرمه من بهجة الحياة، تمامًا
مثلما خطف قبله أطفال الدويقة وأطفال عبّارة ممدوح إسماعيل وأطفال قطار
الصعيد وأطفال معهد الأورام وكل الأطفال الذين اقتضت حكمة الله أن يخطفهم
الموت من وسطينا لعلّنا نتعظ برحيلهم فنصنع عالمًا أفضل يكبر فيه كل
الأطفال الباقين على قيد الحياة سعداء
ومبتهجين وأحرارا ومتساوين فى
حقوقهم التى خلقهم الله من أجلها بنى آدمين، لا متاعا ولا عقار
لعلك
تذكر أننى قبل أسبوع شكرت الله على حالة التعاطف الشعبى التى حظى بها رئيس
الوزراء د. أحمد نظيف بعد رحيل زوجته رحمها الله، وهى الحالة التى أثبتت
أن بربرية الحزب الوطنى لم تفقد المصريين تحضّرهم، وحمدت يومها للرجل حرصه
على عدم المتاجرة بحزنه أو السماح لهواة النفاق باستغلاله أسوأ استغلال،
ثم لما شاء القدر أن يُفجع الرئيس مبارك وعائلته برحيل زهرة العائلة بتلك
الصورة القاسية، وجب أن نحمد للرئيس أن وطأة الحزن لم تنسه أنه يحكم بلدا
جمهوريا لا يصح فيه أن يختلط العام بالخاص، ولذلك أصر على أن تقام
جنازة حفيده بتلك الصورة الحضارية التى توحد فيها الخصوم السياسيون أمام
رهبة الموت، ثم حرص فى خطوة أشد تحضرا على أن يرجو فى نعى الأسرة المنشور
فى الأهرام عدم مشاطرة العزاء بالنشر، ومع ذلك أبت دببة الحزب
الوطنى الغشيمة الغاشمة إلا أن تنحط بتلك الرغبة فى التعبير الراقى عن
الحزن، لتجبر أفعالها الناس على التأفف من ذلك الاستغلال السياسى الرخيص
لرحيل هذا الطفل البهىّ الذى يخطف القلب، فتنجح ببراعة مخجلة فى إفساد
لحظة نادرة توحّد فيها المصريون على قلب رجل واحد. قل لى بالله
عليك أى بذاءة تلك التى تجعل كاتبًا غشيمًا يتطوع بإدخال الرئيس وأسرته
إلى الجنة بدون حساب، مع أن سيدنا أبوبكر الصديق نفسه يقول: لو كانت إحدى
قدمى فى الجنة والأخرى خارجها لما أمنت مكر الله، ولماذا أوقفت قنوات
فضائية خاصة بث برامجها واستبدلتها بالقرآن الكريم، مع أنها لم تفعل ذلك
بعد رحيل مئات المصريين فى كل كارثة حاقت بالبلاد، ولماذا تتطوع
صحف خاصة بنشر صفحات تعزية رفضها الرئيس نفسه لمجرد أنها تريد أن تظهر حسن
نيتها الوطنية لعلها تنفعها فى أيام سوداء قادمة، ولماذا يصر مفتى
الجمهورية الدكتور على جمعة على ألا يكف عن إدهاشنا فيقول فى برنامج البيت
بيتك إنه لم يحضر فى حياته جنازة سادها الهدوء وحفّتها الرحمة مثل جنازة
محمد علاء رحمه الله، فيجبر الناس على أن ينسوا حزنهم ويلفتوا انتباه
فضيلته إلى أن هدوء الجنازة كان بفعل حصار الجهات الأمنية للمنطقة والذى
منع آلاف الناس من حضور الجنازة، وأن الملائكة تحف بالرحمة
والسكينة كل جنازات الأطفال دون أن تخص طفلاً بعينه، ولماذا ينشر كتاب
حكوميون كلامًا مسفًا من نوعية أن حزن المصريين كان استفتاء جماهيريًا على
حبهم للرئيس، مع أن غالبية المصريين الذين ذرفوا الدموع الصادقة على تلك
الفاجعة يكتوون بنار سياسات حزب الرئيس ورجاله، ولو أجريت الآن
انتخابات نزيهة تحت إشراف قضائى كامل لسقط الحزب الوطنى فيها بالثلث، لأن
المصريين ليسوا أغبياء ولا حمقى ليجعلوا مشاعر الحزن النبيل والتضامن
الواجب فى ساعة الشدة تنسيهم رغبتهم فى التغيير والإصلاح. رحم
الله محمد علاء مبارك وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله وذويه وزملاءه فى
المدرسة وأصدقاء طفولته الصبر والسلوان. هو فى جنة الخلد لا محالة، هو فى
رحاب من وسعت رحمته كل شىء، لكن هل نرحم نحن أنفسنا ونتعظ برحيله
الفاجع ونخلق جميعا من لحظة التعاطف النبيل التى سادت مصر بداية لمرحلة
جديدة تجعل مصر يوما ما جنة لأطفال الفقراء والأغنياء على السواء، ولعلنا
إن فعلنا نستحق أن نورد على الجنة، كما يردها الأطفال دون عناء