قصة عجوز بني إسرائيل وواقع الدول الإسلامية
د.علي الحمادي *
لقد مَنّ الله على أمتنا ( أمة الإسلام ) بأن جعلها خير أمة أُخرجت للناس، فقد قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...)[آل عمران: من الآية110].
فهي الأمة التي عجز التاريخ عن تسطير أمجادها، وهي الأمة التي رعاها ربُّها وتكفل بها خالقها، فسادت الدنيا، وصنعت البطولات، وهندست الحياة، وقادت البشرية، وحفرت بصماتها المباركة في مشارق الأرض ومغاربها، وعبرت القارات والقرون، ودانت لها رقاب الجبابرة، وارتجف لعظمتها القياصرة والأكاسرة، وصدق فيها قول القائل:
ملكنا هذه الدنيا قرونا**0وأخضعها جدود خالدونا
وسطرنا صحائف من ضياء**فما نسى الزمان ولا نسينا
ولكن الحال لم يستمر كما كان في زمن أسلافنا، بل تبدَّل، فأصبحنا تبعاً لغيرنا، وأصبح ولاء كثير من أبناء جلدتنا لأعدائنا، وأصبح دمنا أرخص الدماء، وأصبحنا كالأيتام على مآدب اللئام، بل أصبحنا ألعوبة بيد الشرق والغرب، إذ سُفكت دماؤنا، ودُنَّست مقدساتنا، وهُتكت أعراضنا، ونُهبت ثرواتنا، ويُتِّم أبناؤنا، وثُكلتْ نساؤنا، واحتُلت ديارنا، فلم يعد لنا أثر أو تأثير، ولا واقع مشرف كريم.
انظر إلى واقع الدول العربية والإسلامية، وتأمّل التقارير والإحصائيات التي تنشرها المنظمات والهيئات العربية والإسلامية والدولية لتتعرف على عمق المأساة التي تعانيها أمتنا.
هل تعلم أن نصف سكان العالم العربي ممن تجاوزت أعمارهم (15) عاماً أميون (حسب تقرير المجلس العربي للطفولة والتنمية لعام 2002)، وأن هناك (70) مليون مواطن عربي أمِّي ثلثاهم من الأطفال والنساء (حسب تقرير منظمة اليونيسف)؟!
هل تعلم أن ما تنفقه دولة الكيان الصهيوني (إسرائيل) على البحوث التطبيقية يعادل (20) ضعف ما تنفقه الدول العربية مجتمعة على البحوث التطبيقية؟!
هل تعلم أن حصة الدول العربية مجتمعة من المقالات المنشورة في الصحف العالمية لا تتعدى (1%) في حين أن حصة ألمانيا وحدها من هذه المقالات تزيد على (7%)؟!
هل تعلم أن عدد براءات الاختراع التي سُجلت في سنة (2001) في الدول العربية مجتمعة لا يكاد يتجاوز (70) براءة اختراع، في حين أن عدد براءات الاختراع التي سُجلت في نفس السنة: في إسرائيل (1031) براءة اختراع، وفي اليابان (35) ألف براءة اختراع، وفي أمريكا (99) ألف براءة اختراع، وفي ألمانيا (12) ألف براءة اختراع، وفي تايوان (6500) براءة اختراع؟!!
هل تعلم أن إجمالي الناتج المحلي لإسبانيا فقط أكبر من إجمالي الناتج القومي لجميع الدول العربية (حسب تقارير 2001)؟!
هل تعلم أن مبيعات شركة (جنرال موتورز) أكبر من الناتج المحلي لأوندنيسيا(لسنة 2001)، والتي يبلغ تعداد سكانها (220) مليون؟!
هل تعلم أن مبيعات شركة (سوني) أكبر من الناتج المحلي لمصر (لسنة 2001) والتي يبلغ تعداد سكانها (70) مليون؟!
هل تعلم أن مؤشر الشفافية (والذي كلما ارتفعت درجة هذا المؤشر كلما دلّ ذلك على أن الفساد قليل، وكلما انخفض فإنه يدل على انتشار الفساد بجميع أنواعه) لأحسن دولة إسلامية (ماليزيا) لا يتجاوز (5) من (10)، في حين أن كثيراً من الدول الإسلامية لا يتجاوز هذا المؤشر (2) من (10) حسب تقرير المنظمة الدولية للشفافية، والتي مقرها في ألمانيا، وهذا يدل على أن كثيراً من الدول العربية والإسلامية تسبح في محيطات مظللة من الفساد، فيا للعجب!!
وهل تعلم أن إجمالي الناتج العالمي سيزداد (300) مليار دولار تقريباً عندما يتم تطبيق اتفاقية التجارة العالمية، وبعد إزالة جميع الحواجز التي تقف أمام هذه الاتفاقية، وستكون هذه الزيادة موزعة (كما ذكرت إحدى الدراسات) كالتالي: نصيب الولايات المتحدة الأمريكية هو (36) مليار دولار، في حين أن نصيب جميع الدول النامية (وهي 120دولة) والتي تنتمي إليها الدول العربية والإسلامية هو (17) مليار دولاراً فقط!!
إنني بذكر هذه المعلومات أريد أن أُشعل الحماس في نفوس أبناء هذه الأمة المباركة، هذه الأمة التي ستبقى -بإذن الله- نابضة بالحياة، محدِّقة ببصرها إلى السماء، منتظرة اللحظة التي تمزق فيها أغلالها، وهي آتية بإذن الله، لا محالة.
إنني أذكر هذه المعلومات لأستنهض هذه الأمة من جديد، وكم تعجبت من قصة عجوز من بني إسرائيل، أبت إلاّ أن تكون مع نبي الله موسى -عليه السلام- في الجنة، في موقف ناهض للهمة، مشعل للحماس، فما أروع هذه النماذج، وما أحوج الأمة إلى أمثالها!!
فعن أبي موسى الأشعري قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- أعرابياً، فأكرمه فقال له: "ائتنا" فأتاه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سلْ حاجتك"، فقال: ناقة تركُبها، واعنُزاً يحلبها أهلي.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟ قالوا: يا رسول الله، وما عجوز بني إسرائيل؟
قال: "إن موسى لَّما سار ببني إسرائيل من مصر، ضلُّوا طريق، فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إن يوسف لما حضره الموتُ أخذ علينا موثقاً من الله أن لا نخرج من مصر حتى تُنقل عظامه معنا. قال: فمن يعلم موضع قبره؟ قالوا: عجوز من بني إسرائيل، فبعث إليها، فأتته، فقال: دُليني على قبر يوسف، قال: حتى تُعطيني حكمي، قال: ما حكمك؟ قالت: أكونُ معك في الجنة.
فكره (موسى) أن يُعطيها ذلك، فأوحى الله إليه أن أعطها حكمها؟ فانطلقت بهم إلى بحيرة موضع مستنقع ماء، فقالت: انضِبُوا هذا الماء، قالت: احتفِروا واستخرجوا عظام يوسف، فلما أقلُّوها إلى الأرض، إذا الطريق مثل ضوءِ النهار" (حديث حسن رواه أبو يعلى في مسنده، وابن حبان في صحيحه، وصححه الحاكم).
شتان ما بين همة وطموح وسمو هذه المرأة على الرغم من كبر سنها، وبين همة وطموح ذلك الأعرابي الذي شهد سباقاً للخيول، فسبق فرسٌ، فطفق يكبر ويثب من الفرح، فقال له من يجانبه: أهذا الفرس فرسك؟ قال الأعرابي: لا، ولكن اللجام لي!!
إن هذه المستويات المتواضعة لا يمكن تبني أمة، أو تصنع حضارة، أو تُحدث تأثيراً، وصدق صالح بن عبد القدوس حينما قال:
إذا أنت لا تُرجى لدفع مُلِمَّةٍ ** ولم يكُ للمعروف عندك موضعُ
ولا أنت ذو جاهٍ يُعاشُ بجاهه **ولا أنت يوم البعث للناس تشفعُ
فعيشك في الدنيا وموتك واحد ** وعُودُ خلالٍ منْ حياتك أنفعُ
لقد تأملت كثيراً في واقع هذه الأمة، وآلمني ما آل إليه أمرها، كما تأملت في كتاب الله وفي سنة رسوله، وفي تاريخ المسلمين فأيقنت أن ثمة خللاً أودى بهذه الأمة، وأن أمتنا قوية بقوة الله ثم بقوة المنهج الرباني وما فيه من حق وصلاح، وأن نهوضها من جديد أمر ممكن -بإذن الله تعالى- ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف؟ هذا ما سوف نتعرف عليه في المقالات القادمة