[size=24]حوالي سنة (1240م) كانت أسبانيا الإسلامية (الأندلس ومملكاتها) تموج في بحر من الفوضوية ، يتنازعها أكثر من حاكم ، ويتزعمها كل من يجد في نفسه مطمحـًا لجاه أو رغبة في سلطان .
على هذا النسق الهمجي سارت أمور مملكة العرب في الأندلس حتى آل أمرها إلى النتيجة الطبيعية لتلك الحالة ، فغدت بعد أن كانت مملكة إسلامية متحدة تسيطر باسم الإسلام وتحت رايته على بقعة كبيرة ممتدة واسعة الأطراف ، ممالك متنابذة متنافسة ، كل هم ملوكها ألقاب طنانة وحاشية منافقة ، وبهرجة وزخرفة ثم لا يعنيهم بعد ذلك أُخذلت النصرانية أم نجحت ، أُهزم الإسلام أم انتصر .
هذه حال المسلمين في الأندلس خلال القرن الثاني عشر الميلادي - السادس الهجري - !
بيد أن حكم الله في الأندلس لم يكن قد حان بعد ، فقضت عنايته بأن دولة الإسلام في الأندلس مازال في عمرها بقية ، وأن هناك تاريخـًا آخر سيمتد ويظهر في الأفق ويسطع في سماء الأمة الإسلامية .
في وسط هذا الجو القائم الذي ذكرناه آنفـًا ظهر بطل الأندلس العظيم " محمد بن يوسف " المعروف بـ " محمد بن الأحمر " ، وكان على قدر محمود من الشجاعة والنبوغ ، مما جعله يفكر في حال الأندلس ، وما آلت إليه ، وبدأ " ابن الأحمر " يفكر ويشغل فكره ويتعب ذهنه ليجد جوابـًا لسؤاله الحائر . كيف يستطيع إنقاذ الأندلس من الهوة السحيقة التي هي على شفا حفرتها ؟ وفكّر " ابن الأحمر " وقدّر ، وخرج بالنتيجة ، وهي أنه لابد وأن يترقب الفرصة ويتحين الوقت الملائم .
وحانت الفرصة ، وجاء الوقت الملائم ، فلقد مات حاكم غرناطة - أكبر إمارات الأندلس - وترك أمرها بدون خلف أو وريث ، فبادر " ابن الأحمر " بمساندة أعوانه إلى الإمساك بزمام الحكم في غرناطة ، وفي إمارة صغيرة أخرى تدعى " المرية " ، وتطلع الناس وداعبتهم الأحلام وعقدوا جسام آمالهم على هذا الشاب الذي يتوسمون فيه الخير وتبدو عليه سيما الصلاح والعبقرية .
في يوم من أيام عام 1244م وردت إلى ملك قشتالة " فرديناند الثالث " النصراني أخبار عن " محمد بن الأحمر " وعن مدى حب الشعب له وتعلقهم به ، وعن مدى طموح "ابن الأحمر " ونبوغه ، وأسرها " فرديناند " في نفسه وساورته الشكوك ، وخيل إليه أن آماله وأطماعه في بلاد المسلمين قد بدأت تتبدد باستيلاء هذا الطموح البطل على مقاليد الأمور ، وعاهد " فرديناند " نفسه أن لا بد من القضاء على " ابن الأحمر " والنيل منه ، وقام على الفور فأرسل جيشـًا كبيرًا لحصار غرناطة ، واحتلالها ، ولكن لأمر يعلمه الله لم يكن الحظ معه بالرغم من ضعف المسلمين في غرناطة ، فما كادت قواته تشرف على أسوار غرناطة حتى أصابها وابل من السهام ردها على أعقابها خاسرة .
ووردت الأنباء إلى " فرديناند " الثالث بهزيمة جيشه ، فتأكد من أن الأمر جد خطير ، وعقد العزم على القيام بنفسه لمحاربة " ابن الأحمر " وأسرع فأعد الجيوش والعتاد واستعان بشعبه فأعانه حتى تم لديه ما أراده .
وهنا نقف لحظة لنرى كيف تصرف " ابن الأحمر " حين علم بما دبره " فرديناند " الثالث ، فأين له بمواجهة هذه الجيوش الجرارة ؟ ووجد " ابن الأحمر نفسه في مأزق حرج يتطلب الحكمة والحذر ؛ لأن دولة صغيرة ناشئة كدولته لا يمكن أن تقف أمام دولة راسخة الأقدام كدولة قشتالة التي يحكمها " فرديناند الثالث " .
صمم " ابن الأحمر " على شيء وعقد عزمه عليه !! إنه سيستسلم لـ "فرديناند " وسيعلن له طاعته وولاءه ، وسيوهمه بأنه سيدفع له الجزية صاغرًا ، حتى تنقشع هذه الظلمة ويعود "فرديناند " بجيوشه ، وبعدها يكون ما يكون ، وفعلاً .. فعل " ابن الأحمر " كل ذلك بحذافيره ، وأوهم " فرديناند " بالصلح ، وقبل شروطه وودعه في سلام ، وعاد "فرديناند " إلى بلاده مزهوًا بالنصر الذي حققه وبغرناطة التي استسلمت له بدون تعب ، ولو علم " فرديناند " بأن هذه المصانعة من " ابن الأحمر " إن هي إلا كسب للوقت وتحقيق للنصر من أقرب طريق لكان له بدل هذا الفرح حزن وكرب عظيم .
بعد مضي حادثة مصانعة " ابن الأحمر " لـ " فرديناند " السابقة بعشرة أعوام ينظر الناظر إلى غرناطة وممتلكاتها فيكاد من شدة ذهوله أن يكذب ما يراه ، وأن يجزم بأنه ليس في غرناطة ؛ لأن عين الناظر هذه ستقع على نوع جديد من الحياة غير التي كانت فيها من قبل ، ستقع أول ما تقع على حصون منيعة ، وجيوش قوية لها من العتاد فوق ما كانت عليه في الماضي عشرات المرات ، وإذا دقق الناظر جيدًا وأمعن النظر في الحياة التي حوله فإنه سيجد شعبـًا غير الذي كان من قبل ، فهذا شعب متحد متساند ، ليس همه أن ينال منصبـًا أو جاهـًا ، وإنما كل همه الاتحاد والأمل في لقاء أعدائه وأعداء دينه النصرانيين .
ولم يطل انتظار هذا اليوم ، فما إن رأى " محمد بن الأحمر " القدرة من نفسه ، والتضحية من شعبه ، حتى رفض دفع الجزية لـ"فرديناند " وأعلن الخروج من طاعة النصارى ، وسرعان ما أعد " ابن الأحمر " جيشـًا قويـًا استعان في تكوينه بأصدقائه " بنو مرين " وكثير من ملوك المغرب ، وقام بتحصين مملكته على خير ما يكون ، واستعد استعدادًا تامـًا للمعركة الفاصلة ، وأقبلت جيوش النصرانيين تتهادى ، مختالة متبخترة ، وكأني بها قد ظنت أن كل الأيام لها أو أنها قد أخذت على الشيطان عهدًا بالنصر في كل المعارك .
ودارت المعركة ، واشتد القتال ، وتقدم " ابن الأحمر " الصفوف ، وهو يضرب بقوة ، ويجهز على صفوف الأعداء ، يضرب فيها ذات اليمين وذات الشمال ، ومضى الوقت ساعة تلو الساعة ، و" ابن الأحمر " لا يدري كم مضى وكم بقي ، وإنما الذي يعيه جيدًا أن أمامه عدوًا لابد من القضاء عليه .
ومضى في المعركة مسترسلاً فيها فما أوقفه إلا صوت يصيح به : كفى يا سيدي القائد فما بقي منهم أحد ، فصاح به " ابن الأحمر " : هل انجلت المعركة حقـًا ، أيها الجندي ؟ نعم يا سيدي القائد ، وانتصرنا ، والحمد لله ، ولقد ولى الكفار الأدبار ، فصاح القائد من شدة فرحه : انتصرنا ، انتصرنا ، حقيقة لقد انتصرنا ، الله أكبر ، الله أكبر ، فهتف المسلمون وراءه : الله أكبر ، الله أكبر .
فسجل التاريخ أن عمر الإسلام في الأندلس قد كتب له امتداد جديد ، وفتحت له صفحة جديدة ، صفحة امتدت أكثر من قرنين من الزمان !! صفحة " ابن الأحمر " في غرناطة .
\محفوظةوثيقة الخصوصية | اتفاقية الخدمة [/size]